كان لزلزال الثورات العربية (ما أسموه بالربيع العربي) ارتدادات كبيرة على المنطقة من أبرزها.. ما ظهر للجميع بشكل سافر من غياب مفهوم المواطنة (بتعريفها الحديث) عن العالم العربي تماماً. فالمواطن العضو الفاعل في الدولة المدنية الحديثة (دولة القانون والمؤسسات) وفق العقد الاجتماعي الذي يجمعهما، هو مواطن ما برح يقطن أرض الحلم واليوتيبا في العالم العربي، ولم تستطع عامة الدول العربية أن تثبت عكس هذا، ولاسيما تلك الدول التي كانت تظهر للعالم واجهات القصدير الديمقراطية من برلمانات وانتخابات وقضاء وإعلام مستقل.. وخلافه، جميع هذا كان فقط هياكل هشة تهاوت مع الاضطرابات الأمنية، عندها اضطر المواطن البسيط أن يلوذ بانتماءاته المتشرذمة كطائفته أو اثنيته أو عرقه أو قبيلته.. لتوفر له نوعاً من الحماية التي عجزت تلك الدول أن توفرها له، وظهر للواجهة الإعلامية عدد من العرقيات والاثنيات والطوائف لم نسمع بها من قبل، تلك الطوائف بدل أن تمثل مصدر ثراء وغنى للمكون الثقافي والاجتماعي في العالم العربي، أصبحت اثنيات مذعورة مستهدفة، ضمن اختلال موازين العدالة والانفلات الأمني، كما حدث في العراق ضد الايزيدين ونسائهم، وضد السريان والآشورين المسيحين، والصابئة، وسواهم من العرقيات الذين شكلوا تيار هجرة جماعية خارج المنطقة المضطربة نجاة بأرواحهم. في يوم من الأيام فكر الكاوبوي الأميركي ان يعلم العالم العربي (الديمقراطية) وفق أنموذجها الغربي، فاستجلب سبورته الإعلامية الشاسعة وأخذ ينقل للعالم العربي تفاصيل محاكمة الديكتاتور صدام حسين، حيث ظن أن مشهد الديكتاتور المنكسر أمام هيبة المحكمة والقانون هو ألف باء الديمقراطية، كونه يختزل شخصية الطاغية أو الأب العلوي المترفع في مجتمعات مسرفة في البطريركية وهو يساق ذليلاً لميزان العدالة، لكن لم يدر بخلده أن نموذج الأب هو جزء من الهوية والتكوين بل والعنفوان الجمعي، فلا تكتمل سمات رجولة رجل الشارع البسيط إلا إذا ناديته بأبي فلان. وبالنسبة لشعوب المنطقة لم تسمع بنظرية قتل الأب الفرويدية، بل على العكس فأنت كمستعمر عندما تهين نموذج الأب في ثقافتي، فأنت تهينني وتدهسني وتدنس تاريخي.. لكن لمَ يعجز المستقبل عن الدخول؟ ومشروع النهضة عن التحليق؟ لماذا تظل قوافل الحداثة بجميع حمولتها الفكرية والسياسية تقف على حدود العالم العربي، عاجزة عن أن تسلك سبالها إلى الداخل؟ لما يظل مشروع النهضة عبارة عن إجهاضات متصلة، وسط بيئة غير حاضنة أو مستقبلة لبذار المستقبل؟ لماذا تربتنا العربية مشبعة بالمكون الرجعي والتقليدي الذي من المستحيل أن يخرج عن خيامه الأبوية، أو أن تستبدل العديد من بلدانه ما يظهر لها أنه مفهوم للقائد والرعية، بمفهوم الوطن والمواطن. الإجابة على أسئلة بهذه الضخامة بالتأكيد ليست بالأمر اليسير، ولربما يتطلب من العالم العربي أجيالا، تجيد قبل كل شيء صناعة السؤال لتصل إلى مكون أولي وبسيط للإجابة.. حول فشل العالم العربي في تأسيس يوتيبا دولته المدنية الحديثة. وهو الأمر الذي يرجعه الكاتب العربي هاشم صالح إلى (الانسداد التاريخي) وهو عنوان لكتاب له يناقش فيه أسباب فشل هذا المشروع عربيا، والذي يرجعه في جله إلى غياب مهارة طرح الأسئلة. وإلى أن يتعلم عالمنا العربي فن طرح الأسئلة.. فلن تلوح في الوقت الحاضر في الأفق أجوبة. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :