مسرحية "مصيدة الفئران" حيث لا مصيدة ولا فئران

  • 6/26/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لا تنتمي مسرحية “مصيدة الفئران” إلى كتّاب المسرح البريطانيين المرموقين، فهي في الأصل مسرحية إذاعية من تأليف أغاثا كريستي، الكاتبة الأشهر في مجال الرواية الإنكليزية البوليسية، استمدت منها كريستي نفسها قصة قصيرة هي التي تم إعداد المسرحية عنها، وبدأت عروضها في أكتوبر 1956 في مدينة نوتنغهام قبل أن تنتقل إلى لندن في الشهر التالي. وقد بلغت عروضها حتى اليوم ما يقرب من 28 ألف عرض مسرحي، تناوبت عليها مجموعات مختلفة من الممثلين، وكان اسمها الأصلي “ثلاثة فئران عمياء” ثم تغير إلى “مصيدة الفئران”، ويقال إن هذا الاسم مقتبس من اسم المسرحية التي أشار إليها شكسبير على لسان هاملت في مسرحيته الشهيرة، لكن ليست هناك في حقيقة الأمر، مصيدة ولا فئران بل يبقى المعنى رمزيا تماما. انتقلت المسرحية عام 1974 من مسرح أمباسادور إلى المسرح المجاور سانت مارتن لين (الذي افتتح عام 1914) حيث ما زالت تعرض حتى اليوم، ولعل من بين ما يضفي ملامح خاصة على هذه المسرحية كونها تعرض على خشبة هذا المسرح العريق العتيق بمبناه التاريخي، وطوابقه الملتفة ذات المقاعد المغطاة بالقطيفة، وأرضيته الخشبية القديمة وسلالمه الملتفة، واللوحات الذهبية التي تغطي جدرانه. وعندما تدلف إلى المسرح تشعر أنك قد انتقلت من القرن الحادي والعشرين إلى القرن التاسع عشر، بل إن رائحة الجو تختلط داخل هذا المسرح برائحة الزمن. أما المسرحية نفسها فتنتمي أيضا إلى الماضي، إلى الأجواء التي كانت سائدة في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا إلى أجواء الروايات البوليسية التي اشتهرت بها أغاثا كريستي، سواء من حيث نوع الجريمة وشكل التحقيق والحبكة، وصولا إلى التلاعب والالتواء المتعمد في الحبكة الذي يقصد منها أن تفاجئك بما لا يخطر على بالك ولا تتوقع أن يكون من القاتل. لكن المفاجأة لا تمثل في الحقيقة أي مفاجأة، فالمشاهد المدرب قليلا على هذا النوع من الروايات (في الرواية والمسرح والسينما والتلفزيون) يمكنه معرفة القاتل مبكرا، لكنه سيظل رغم ذلك، متشبثا بمقعده، فربما جاءت النهاية مختلفة، أو ربما يريد فقط أن “يأخذ حقه” من التذكرة غالية الثمن التي اشتراها. المسرحية بلغت عروضها على امتداد 67 عاما 28 ألف عرض، وكان اسمها الأصلي "ثلاثة فئران عمياء" ثم تغير إلى "مصيدة الفئران" والملاحظ أن أسعار التذاكر لا يزال مرتفعا رغم أن المسرح لم يكن ممتلئا تماما مثلما هو الحال في المسرحيات الموسيقية التي تعرض على مسارح الويست إند، فقد تحولت المسرحية إلى حدث “سياحي” أو بالأحرى، إلى نقطة جذب سياحية، فالسياح الأجانب يقبلون كثيرا على مشاهدتها من أجل أن يعودوا إلى بلادهم ليخبروا أقرانهم وهم فخورون بأنفسهم، أنهم زاروا لندن وشاهدوا مبنى البرلمان العريق وساعة بيغ بن والمتحف البريطاني وساحة بيكاديللي.. ومسرحية “مصيدة الفئران”! لست هنا في معرض تحليل المسرحية أو الكشف عن أحداثها وشخصياتها فلم يكن القصد من المقال كتابة نقد للمسرحية، وهي على أي حال، قد شبعت نقدا وعرضا وتحليلا، بل ما يهمني فقط هو الكتابة عن “الظاهرة” نفسها في ضوء تجربتي التي تأخرت كثيرا بالطبع. ولعل من أفضل ما قرأت في تفسير مسألة النجاح، أن النجاح يجلب النجاح، أي أن السمعة الجيدة التي اكتسبتها المسرحية عبر عقود، أصبحت بمثابة “قوة دفع” لها، تضمن استمرارها، رغم أن المسرحية من الناحية الفنية لم تشهد تطورا كبيرا، فالديكور العام لها لم يتغير سوى مرة واحدة فقط عام 1999 وظل على حاله حتى اليوم. ولكن لماذا كل هذا النجاح؟ أظن أن “تاريخية” المسرحية أو كونها أقرب إلى قطعة مسرحية جديرة بأن توضع في المتحف، عامل جذب لا شك فيه، كما أنها مسرحية سهلة سلسة، تقدم صورة لبريطانيا القديمة من حيث اللغة وأسلوب الأداء وملابس الممثلين وتصفيفات الشعر والشخصيات الغريبة التي اشتهرت برسمها أغاثا كريستي في رواياتها، والتي تحمل جميعها بصمات الإدانة دون أن تكون بالضرورة قد تورطت في القتل، لكنها وقعت في خطيئة ما في الماضي، كما نرى في شخصيات هذه المسرحية. في ختام المسرحية يقف طاقم الممثلين يتقدمهم بطل المسرحية أو الممثل الذي يقوم بدور مفتش الشرطة، يطلب منا نحن الجمهور عدم الكشف عن نهاية المسرحية بعد أن أصبحنا الآن “متورطين في الجريمة”! من ضمن الجوانب التي لم تعجبني في المسرحية انفصالها التام عما كان يجري في المجتمع البريطاني في تلك الفترة تحديدا بعد الحرب الثانية، أي أن شخصياتها تبدو منبتة الصلة بما يجري خارج غرفة الاستقبال في “بيت الضيافة” الذي تدور فيه أحداث المسرحية. فأغاثا كريستي عموما، رغم اهتمامها بالجوانب المميزة للشخصيات التي ترسمها في رواياتها، كانت تفضل عموما الابتعاد عن الأجواء السياسية والتغيرات الاجتماعية الجارية من حولها، وتجعل شخصياتها تبدو كما لو كانت معزولة عن الزمان والمكان رغم أنكليزيتها القحة، وقد أكون مخطئا في هذا فلا أزعم أنني قرأت الـ66 رواية والـ14 قصة قصيرة التي كتبتها أغاثا كريستي، لكن قرأت منها ما يكفي ويفيض! كان يشغلني وأنا جالس في مقعدي الصغير الضيق (والمقاعد كلها متماثلة) سؤال واحد فقط هو “هل كان الإنكليز قبل 67 سنة أصغر حجما من الإنكليز الذين نعرفهم اليوم، ونسائهم بالطبع؟!”. التصميم الخاص للمسرح ينتمي إلى العمارة الجورجية الإنكليزية، ويبدو حسب ما وصفه أحد المؤرخين، كما لو كان مسرحا خاصا شيده أحد النبلاء ليعرض فيه ما يروق له من مسرحيات على ضيوفه، ولا شك أن هذا الجو “الخاص” يلعب دورا في إضفاء السحر والغموض على “مصيدة الفئران”. ونصيحتي أنه يتعين عليك أن تتوخى الحذر وأنت تدلف إلى هذا المسرح، حتى لا تقع في المصيدة!

مشاركة :