في العرض المسرحي “بيت الأشباح”، لفرقة مسرح الشباب التابعة للبيت الفني للمسرح، على المسرح العائم بالقاهرة، يحلّق أعضاء ورشة “ابدأ حلمك” من الأجيال الفنية الجديدة في فضاء الحلم والخيال، راسمين خارطة للواقع بألوانهم الخاصة التي يقترحونها. لا ستار قبل بدء العرض، بما يعني أنه لا حواجز أصلا لكي تُزال، ولا حدود لكي تُذاب، فالكل في الهمّ شرق، والجميع سواء في المأساة المحيطة: الأرواح والأجساد والبشر والأشباح والممثلون والجمهور، ومن حق هؤلاء كلهم أن يتبادلوا الأدوار بسهولة وسلاسة، فيُخرج الإنسانُ العفريتَ الذي بداخله، ويبكي الشبح بدموع إنسانية حارة، فالدنيا ذاتها صندوق أشباح ضخم ممتلئ بالخوف، لكنه لا يخلو من إنسانية ومحبة. من أنا؟ سؤال الهوية المحوري الذي تطرحه مسرحية “بيت الأشباح” وهي من تأليف وإخراج محمود جمال حديني، وديكور هبة الكومي، وملابس أميرة صابر، وإضاءة أبوبكر الشريف، وموسيقى رفيق يوسف، وهو سؤال لم يأت منفردا، وإنما اشتبكت به تساؤلات وأطروحات فرعية، تتعلّق بأسباب فقدان البشر بوصلتهم الهادئة في المجتمع المصري المفكك، خصوصا الشباب الذين يعانون الضياع التام والعزلة والاغتراب والتشرذم، وتدفعهم الإحباطات أحيانا إلى الهجرة وربما الانتحار في حاضر كابوسي تستوي فيه الحياة والموت. خلط الأوراق تنتهج المسرحية تقنية خلط الأوراق، حيث نجح صُنّاعها في نصب متاهة بصرية وفنية لم ينج أحد من شراكها، فالديكور الذي لم يتغيّر طوال العرض يجسّد شقة فخمة واسعة متعددة الغرف، معروضة للإيجار، يتقدم الشاب “حسن” لاستئجارها هربا من وصاية عمه عليه وتدخله الصارم في حياته بعد وفاة أمه وأبيه، ورغبة منه في الاختلاء بذاته وإعادة قراءتها من جديد ونبذ المجتمع الذي فشل في إقامة علاقة سوية معه. هي شقة لاكتشاف الحياة من جديد كما تشير الأوراق الظاهرة، لكن الحبر السري يوضح أن هذا الاكتشاف يتم من خلال الموت والأموات، فالشقة مسكونة بالأشباح، أو تلك الأرواح المعلّقة بين السماء والأرض للعشرات من البشر الذين اختتموا رحلتهم كأحياء في أزمنة مختلفة ماضية، ولا يزال حاضرهم ومستقبلهم مجهولا، فكانت إقامتهم في هذه الشقة بمثابة محطة مؤقتة للتدفئة قبل مواصلة رحلة الذوبان. عرض فنتازي للأرواح المعلقة بين السماء والأرض يناقش قضايا الاغتراب والإحباط والتفكك الأسري في العالم العربي بعد تفكير لم يدم طويلا من جانب الأشباح في كيفية طرد الشاب حسن من الشقة بواسطة خطط أساسية وأخرى بديلة جاءت في إطار كوميدي، كالعبث بمحتويات حقيبته وبعثرة ملابسه وما إلى ذلك، اتضح لهم أنه شخص مختلف، بل استثنائي، لا يعرف الخوف طريقا إلى قلبه، إذ تعزله مشاكله وأزماته عن العالم ومن ثم اتجه تفكيرهم إلى التكشّف له ومصارحته بحقيقتهم وسيرهم الذاتية واحدا تلو الآخر. وهنا نشأت بينهم علاقة استئناس وألفة، وانضم حسن إلى فريق التدفئة الروحية ليكتمل خلط الأوراق ويصير الجميع من أحياء وأموات ومن أبناء الأزمنة والأمكنة المختلفة كيانا واحدا، في مواجهة اللحظة الراهنة في هذه الشقة المسحورة التي يرغب مالكها في هدمها. ومن خلال حوارات رشيقة مكثفة امتزجت بالحركة والأداء الاستعراضي الجسدي بمصاحبة الموسيقى التعبيرية التشويقية، رسمت الشخصيات نماذج مختلفة لفئات وطبقات المجتمع المصري في الحاضر والماضي القريب وأكسبت الملابس المعدّة بعناية الشخصيات مصداقيتها في تقديم شرائح متنافرة، بداية من الباشا وكبار الإقطاعيين والرأسماليين، مرورا بالمسؤولين الحكوميين والموظفين وصولا إلى مدرّسة الموسيقى والعُمّال والفلاحين والممثل المغمور “الكومبارس” والراقصة بشارع محمد علي، وغيرهم من البسطاء والفقراء والمعدومين والمقهورين. التفّ الممثلون جميعا (الأشباح وحسن) لالتقاط صورة سيلفي للتعبير عن “توحّدهم” في المصير والهموم المشتركة وأيضا المحبة المؤلفة بين قلوبهم، وجاءت الأحداث كلها لتصبّ في هذا السياق من خلال الحوارات المتبادلة بينهم وسرد كل واحد منهم قصته الشخصية، إذ تكشّفت خريطة الأزمات المجتمعية من محصّلة مشكلاتهم الذاتية. ومن القضايا التي ركّز عليها العرض باعتبارها الأكثر خطورة في المجتمع: ضياع الجذور وغياب الخصوصية المحلية وفقدان الهوية والتفكك الأسري والعزلة والهروب من الواقع المعيش إلى العوالم الافتراضية ووسائل التواصل الاجتماعي الهشّة، وضعف الهمم والعزائم والاستسلام للإحباط والسلبية والأفكار السوداوية القاتمة. طقوس مسرحية جاء العرض منسجما مع ذاته كوحدة فنية مسبوكة بعناية لا يشوبها سوى بعض التطويل والمط، خصوصا في المشاهد السردية التي راح يحكي كل واحد فيها قصته، حيث كان الأفضل اختزالها من خلال إشارات دالة موحية. وقادت هذه العناصر المنسجمة من ديكور وموسيقى وملابس وأدخنة تتصاعد على المسرح، وأضواء تظهر وتغيب بتتابع إلى تحقيق طقس مسرحي ملائم لأجواء الأحداث، بما أسهم في انخراط الجمهور في هذه الوقائع العجائبية. وبدا الأمر كله كأنه حلم جماعي يخوضه مجموعة من المغامرين ليخرجوا منه وقد أعادوا رؤية الحياة والموت بشكل مختلف، ليتفقوا في النهاية على أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، وأن المحبة والإصرار هما سبيل مقاومة كافة الصعاب والمشقات. لقد عثر الشاب حسن على حلمه المؤجل، بأن يكون موسيقيّا وليس محاسبا تجاريّا، وأوصلته علاقته بالأشباح إلى التخلّص من خوفه الداخلي، ليحيا حُرّا كيفما شاء، هكذا قال العرض كلمته في النهاية «كل النوافذ يمكن أن تقود إلى الأمل والتحرّر، ولو كانت نوافذ مطلّة على عالم الموتى
مشاركة :