د. علي توفيق الصادق * سؤال يثيره الكثيرون، ويناقشه المهتمون، ويجيب عنه الباحثون العارفون بأن الخوف من الإنسان الآلي، (الروبوت)، ليس قضية جديدة، وإن كان البنك الدولي تناول هذه القضية في «مستقبل العمل»، عنوان تقرير عن التنمية في العالم 2019. فالتاريخ الاقتصادي يبين أن البشرية لم تمر في الأزمنة الغابرة من دون أن تشعر بالخوف من الابتكارات. فهذا كارل ماركس، الاقتصادي والفيلسوف والمنظر السياسي، رأى في القرن التاسع عشر أن الاقتصاد الرأسمالي يبحث باستمرار عن التكنولوجيا الراقية، والابتكارات لإدخالها في عمليات العمل من اجل الاستفادة من زيادة الإنتاجية التي تتجسد في الأرباح. كان يشعر بالقلق من أن «الآلات لا تعمل كمنافس متفوق على العامل فقط، بل توشك هذه الآلات أن تجعله غير ضروري». وحذر جون مينارد كينز، الاقتصادي الإنجليزي المرموق، عام 1930 من انتشار البطالة على نطاق واسع بسبب التكنولوجيا. ولكن بالرغم من الخوف من سيطرة الآلات على الوظائف، فإن الابتكار أدى إلى تغيير مستويات المعيشة، إذ ارتفع متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، وانتشرت الرعاية الصحية الأساسية والتعليم على نطاق واسع، وزاد دخل معظم الناس.الواقع الراهن أن الإنسان الآلي يتولى الآف المهام الروتينية، وسيقضي على العديد من الوظائف ذات المهارات المتدنية في الاقتصادات المتقدمة، والصاعدة، والنامية. ولكن في الوقت نفسه تخلق التكنولوجيا فرصاً، وتمهد الطريق لظهور وظائف جديدة، أو معدلة، وزيادة الإنتاجية، وتحسن الخدمات العامة.ويذكر البنك الدولي في تقريره عن التنمية في العالم 2019 أن مؤسسة يوروبارومتر (Eurobarometer) قامت بمسح في عام 2017 بيّن أن المشاركين في الاستقصاء يعتقدون أن التكنولوجيا تعمل على تحسين الاقتصاد والمجتمع ونوعية الحياة. وتحديداً، يعتقد 75% من المشمولين بالمسح أن التكنولوجيا ستفيد الاقتصاد، بينما ذكر 64% منهم أن التكنولوجيا ستفيد المجتمع، وأفاد 67% منهم بأن التكنولوجيا ستفيد نوعية الحياة.والتفاؤل الذي أبداه الأوروبيون المشمولون بالاستقصاء لم يبدد المخاوف بشأن المستقبل. فالناس الذين يعيشون في الاقتصادات المتقدمة يشعرون بالقلق من التأثير الكاسح للتكنولوجيا في التوظيف، ويرون أن تنامي التفاوت، إضافة إلى ظهور اقتصاد الوظائف المؤقتة (gig economy)، (حيث تتعاقد المؤسسات مع أفراد مستقلين للقيام بالأعمال قصيرة الأجل)، يشجع على التسابق نحو تدني أحوال العمل.إن بعض ملامح الموجة الحالية للتقدم التكنولوجي جديرة بالملاحظة. فالتكنولوجيات الرقمية للشركات تسمح بالتوسع، أو الانكماش سريعاً، الأمر الذي يؤدي إلى طمس حدود الشركات وتحفيز أنماط الإنتاج التقليدية، وتتطور نماذج أعمال جديدة، كشركات المنصات الرقمية، من شركات ناشئة محلية إلى شركات عملاقة عالمية، وفي كثير من الأحيان بعدد قليل من الموظفين، أو الأصول المادية. ويتيح صعود أسواق المنصات وصول تأثيرات التكنولوجيا إلى عدد اكبر من الناس بسرعة أكبر من أي وقت مضى. فلم يعد الأفراد والشركات بحاجة إلا إلى الاتصال بالمنصات الإلكترونية عبر الإنترنت للاتجار بالسلع والخدمات. هذا النمط من الاتجار بالسلع والخدمات يخلق فرصاً اقتصادية لملايين الناس الذين لا يعيشون في البلدان الصناعية، أو حتى في المناطق الصناعية. ويصل الطلب المتغير على المهارات إلى هؤلاء الأشخاص أنفسهم. فالأتمتة (automation) ترفع العائد على المهارات المعرفية العالية الترتيب في الأسواق المتقدمة، والأسواق الناشئة.إن الاستثمار في رأس المال البشري هو الأولوية لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه الفرصة الاقتصادية المتطورة. وتتزايد أهمية ثلاثة أنواع من المهارات في أسواق العمل، وهي: المهارات المعرفية المتقدمة، مثل حل المشكلات المعقدة، والمهارات الاجتماعية السلوكية، مثل العمل الجماعي، ومجموعات المهارات التي تنبئ بالقدرة على التكيف، مثل الاستدلال والكفاءة الذاتية. والسؤال هو كيف تتوفر هذه المهارات؟ يتطلب بناء هذه المهارات أسساً قوية لرأس المال البشري، والتعلم مدى الحياة. والسؤال هو: ما هو دور الحكومات في توفير المهارات المطلوبة؟ البنك الدولي يوصى بالتالي:الاستثمار في رأس المال البشري، خاصة التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، لتطوير مهارات إدراكية وسلوكية عالية المستوى، إضافة إلى المهارات الأساسية.تعزيز الحماية الاجتماعية، من شأن تحقيق حد أدنى اجتماعي مضمون وقوي، وتعزيز التأمينات الاجتماعية، واستكمال ذلك بإصلاحات في قواعد سوق العمل في بعض بلدان الأسواق الناشئة أن يحقق هذا الهدف.خلق مساحة مالية للتمويل العام لتنمية رأس المال البشري والحماية الاجتماعية، وتعتبر الضرائب العقارية في المدن الكبيرة، والضرائب غير المباشرة على السكر، أو التبغ، وضرائب الكربون هي من بين الطرق لزيادة إيرادات الحكومة. ومصدر آخر لزيادة الإيرادات الحكومية هو القضاء على تقنيات تجنب دفع الضرائب التي يستخدمها العديد من الشركات لزيادة أرباحها. ويمكن للحكومات تحسين سياستها الضريبية، وتحسين إدارة الضرائب لزيادة الإيرادات من دون اللجوء إلى الزيادات في معدل الضرائب. * مستشار اقتصادي
مشاركة :