القاص يوسف إدريس حين قال للروائي الطيب الصالح «حين أقرأ إليك يا الطيب أحس بالونس» هذا الإحساس الذي تسرب إلى يوسف إدريس ربما تسرب لكل قارئ لأدب الطيب الصالح لأن فيه تلك اللطافة والروح الفكاهية المنضبطة التي تقرب المسافة بينه وبين القارئ. والروائي حمور زيادة في روايته الصادرة حديثا وبعنوان (الغرق- حكايات القهر والونس) ربما راق له الونس الذي تحدث عنه يوسف إدريس لذا وضعه ضمن عنوان فرعي للرواية. والقارئ قد يجد في الرواية حكاية الغرق وقد يجد حكايات القهر، أما الونس فهو العنصر الغائب في هذه الحكاية، إلا إذا كان حمور يعتقد أن وصف تفاصيل الزواج هو كل الونس فهذه إشكالية ووضع تلك المفردة كعنوان جانبي للرواية هو تضليل للقارئ. رواية الغرق لم تبتعد كثيراً عن عوالم روايته الأولى الكونج. لأن فضاء القرية ينتج ذات الملامح والحكايات والشخصيات. لكن عدم وجود الجديد والمختلف ليس هو الإشكالية الوحيدة في الرواية، فالروائي عندما يحشد الرواية ذات الحجم الصغير فإنه يجني على حكايته، الروائي جراهام جرين يقول: «الرواية مثل القارب تحتمل عدة شخصيات محددة». وقارب رواية الغرق تحمل من الشخوص ما لا يطيق. هذا الحشد لتلك الشخصيات التي تزاحمت جعل السارد وعن بعد يمر سريعاً على كل شخصية من شخصيات الرواية. وكما أغرق الرواية بحشد هائل من الشخصيات فهو أيضاً أغرق الرواية بحكايات العشق ومحاولة رسم المشاهد الحسية وكأنه لا يوجد في تاريخ تلك القرية إلا تلك العلاقات العاطفية. بل إن هناك مبالغات وفي أحد المشاهد قدم حالة حسية جماعية لا يمكن أن يحتملها فضاء القرية ولا مبرر لوجودها. للمرة الثانية حمور زيادة يحتمي بالقضايا الكبيرة وهذا الاحتماء يوفر للروائي ساتراً دفاعياً ويحجب البعد الفني عن عيون القارئ. وقد فعلها في رواية شوق الدرويش عندما ذهب للتاريخ لذا وجدنا الكثير يتعاطف مع موضوع الرواية أكثر من التعاطف الفني وفي رواية الغرق حاول استمالة القارئ بالحديث عن الرق. لكن الطريف في الأمر أنه تناسى أمر الرق وانشغل برصد غراميات القرية، ولم نجد الحديث عن الرق إلا في آخر الرواية. رسم الشخصيات لم يكن عميقاً لهذا لا نجد شخصية اكتملت ملامحها أو أنها اقتربت من القارئ بشكل حميمي. عدم العمق يعود لعدة أسباب منها لأن الرواية قائمة على الشخصيات والحكايات ضئيلة وذلك بفعل الزحام فهو كان يلعب في ملعب سردي محدود، وبذلك لم تنضج أي شخصية ولم تكتمل. سبب آخر أن النماذج التي استحضرها في الرواية هي نماذج جاهزة، ولم تكن نماذج مخترعة خاصة هذه الرواية. فمثلاً لو تم استحضار جميع ملامح الشخصيات الشيوعية التي حضرت في الروايات العربية لوجدنا بينهم تشابه وشخصية الشيوعي أحمد شقرب هو شبيه لهم وهو امتداد لتك الحالة النمطية التي أصبح عليها نموذج الشيوعي في الروايات. لكن الذي فات على حمور زيادة أن شخصية أحمد شقرب لم تكن بحاجة إلى هذه المرجعية الشيوعية التي لم تصنع الفرق ولو اكتفى بأنه جعله المساعد الطبي فقط لما اختلف الأمر. أيضاً نجد شخصية «الرضية» وهي شخصية نسائية يقترب من نموذج «بت محمود» في رواية موسم الهجرة في الشمال التي في مشهد وحيد أقنعتنا بسطوتها وقوتها بينما «الرضية» في رواية الغرق ظهرت في آخر صفحات الرواية تنهى وتؤمر كانت غير مقنعة إطلاقاً ومفتعل إلباسها تلك القوة المفاجئة. أيضاً نجد شخصية «بشير الناير» عندما علم بمقتل الضابط زوج سكينة. ذهب مسرعاً وقت العزاء ليطلب يدها. هذا الفعل يشابه ما قام به فلورينتينو بطل رواية الحب في زمن الكوليرا عندما علم بموت الطبيب أوربينو ذهب إلى فيرمينا ليخطبها ولم تمض ساعات على وفاة زوجها. وكذلك مشابه لريت باتلر في رواية ذهب مع الريح عندما ذهب لخطبة سكارلت أوهارا بعد وفاة فرانك مباشرة خوفًا من أن ينتظر فتُخطب لغيره. هذه الحالات المتشابهة في هذا المشهد تمنحنا تصوراً بأن ليس هناك فضاء بكر وخالص في السرد بشكل وفي رواية الغرق بشكل خاص. على الروائي ألا يبالغ سواء في كتابة الأحداث أو في رسم الشخصيات حتى لا يفقد صدقه الفني وحمور زيادة وقع في محظور المبالغة. فشخصية عبير تلك الطفلة التي عمرها 13 عاماً نجدها تتعرض لكل تلك الممارسات من أغلب رجال وشباب القرية وهو أمر مبالغ فيه وفي المقابل نجدها تتحدث بصوت واعي جداً وكأنها فتاة جامعية وتتحدث كامرأة بالغة تملك الحيل ولديها القدرة على المساومات والمقايضات. والمفارقة أن الروائي لا يظهر أثر تلك الممارسات والانتهاكات الجسدية على نفسية تلك الطفلة بل بدا الأمر وكأنه أمر اعتيادي. أحياناً يحاول الروائي تزيين نصه ببعض المشاهد الهامشية والتي يظن أنها تضيف للنص معنى. وحمور زيادة عندما قدم شخصية فاطمة وهي الشخصية التي كلما سمعت بجثة غريق في النيل تحضر تجلس تتأمل معتقدة بأن تلك الجثة هي جثة ابنتها سعاد. مثل هذه الشخصية التي تتوله لفقد الغائب من كلاسيكيات النصوص التي تكون فيها القرية مسرحاً لأحداث الرواية. بل إننا عندما نرصد فاطمة في تأملها للنيل تشابه كثيراً مشهد شخصية سارا في رواية امرأة الضابط الفرنسي عندما كانت تجلس وتتأمل المحيط في انتظار غائبها الضابط الفرنسي. حمور زيادة لو استبعد مشهد تأمل فاطمة لما خسر النص شيئاً، لما شعر القارئ بفقدان شيء. إذا كان فضاء القرية بهذا التصور الذي قدمته رواية الغرق، فكيف تكون المدينة؟ وكيف تكون الحياة بشكل عام. وكيف للروائي أن يلتبس عليه الأمر فلا يعرف ماذا يريد من روايته سوى أنه كتب عنوان عريض محتواه القهر والونس. أخيراً، إذا كان الروائي يريد أن يكون له موقفه من الأشياء بكل أطيافها فلماذا يذهب بعيداً؟ لماذا ذهب حمور زيادة إلى التاريخ في شوق الدرويش؟ ولماذا أيضاً في رواية الغرق ذهب بعيداً وكان بإمكانه أن يكتب عن اللحظة الراهنة، عما يحدث الآن. لكن الحكايات التي من الزمن القديم فيها دفء وتحتضن خوف الروائي لكي يضمن البطولة والسلامة في آن واحد. إن كتابة الزمن البعيد هي سكة السلامة لكل الروائيين العرب. الطيب صالح حمور زيادة
مشاركة :