لا أظن أن قارئا جادا، وبخاصة ممن استهواهم الأدب، لم يقرأ لتشيخوف، وحتى لا أعمم ولا أبالغ، سأصرف مقولتي هذه إلى من عرفت من القراء وعايشتهم وحاورتهم، وشاركتهم قراءاتهم، وكان ذلك واضحا لدى كثيرين من أبناء جيلي، من أساتذتي وزملائي، ومن الطبيعي ألا أتحدث هنا عن الجيل الحالي من القراء، بل من الطبيعي أن تتغير قراءاتهم وتتغير خياراتهم، وبالتالي لا يمكن القول إن علاقاتهم بتشيخوف مثل علاقات من سبقهم. إنه أنطون بافلوفيتش تشيخوف، القاص الروسي العظيم، ولد في العام 1860 وتوفي في العام 1904 وكتب المسرحيات والقصة القصيرة، وكان طبيبا، وهناك ما يشبه الاتفاق على أنه أحسن كتاب القصة القصيرة على مدى تاريخ كتابة هذا الجنس الأدبي، الذي أعده من أصعب فنون الكتابة الأدبية. وكان له تأثيره الواضح على كتابة القصة القصيرة وعلى كتابها، في معظم آداب العالم، ومنها كتابة القصة القصيرة وكتابها في الأدب العربي، ولو عدنا إلى تجارب القصة القصيرة في الأدب العربي وبخاصة في مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهي مرحلة تأسيسية مهمة، لوجدنا تأثيره الواضح في تلك التجارب، على الصعيدين الفكري والجمالي، وفي مقالة مهمة يؤكد الكاتب محمد فايز جاد، أن ترجمة قصص تشيخوف إلى اللغة العربية، كانت في وقت مبكر نسبيا، وتحديدا في عشرينات القرن الماضي، وقد ترجمها عن اللغة الإنكليزية، المترجم المعروف محمد السباعي، وصدرت في كتاب بالقاهرة، ويبدو أن تأثيرها كان واضحا، ومن دلائل هذا التأثير، المقالة التي كتبها نجيب محفوظ في العام 1933 في صحيفة “السياسة”، والتي تناول فيها فكر تشيخوف وتوجهاته الفنية وأسلوبه الذي ميزه في القصة القصيرة. وتواصل هذا التأثير، بدليل اقتران صفة – تشيخوف القصة المصرية – بالقاص الكبير يوسف إدريس، وهذا ما يؤكد عمق العلاقة بين إنجاز القاص الروسي والقصة العربية القصيرة. لقد بدأ تشيخوف الكتابة مذ كان طالبا بكلية الطب في جامعة موسكو، وواصل الكتابة حتى صار من أعظم الأدباء الروس، غير أنه لم يتخل عن مهنة الطب، إذ كان يقول: الطب زوجتي والأدب عشيقتي. لقد كان يكتب ليدفع عنه وعن عائلته غائلة الفقر، إذ كان ينحدر من عائلة كان الجد عبدا، أما والده فقد كان يدير دكانا متواضعا وقد أعلن إفلاسه، أما والدته وكانت ابنة بائع قماش متجول، حيث رافقت والدها في تجواله في المدن الروسية، وكانت تجيد قص حكايات الأطفال، كما كانت تحكي لأبنائها ومنهم تشيخوف، ما اختزنته ذاكرتها من حكايات تجوالها مع والدها في الأصقاع الروسية، لذا قال تشيخوف: حصلنا على مواهبنا من آبائنا أما الروح فأخذناها من والداتنا. وقد تطور عمله الإبداعي حيث يعد مبتكر تيار الشعور الداخلي للإنسان، الذي عبر عنه بالقول: إن دور الفنان هو طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها. كان لتشيخوف تأثيره الواضح على كتابة القصة القصيرة وعلى كتابها، في معظم آداب العالم، ومنها كتابة القصة القصيرة وكتابها في الأدب العربي، وتوالت ترجمات قصص تشيخوف ومسرحياته والحديث عنها، وما زالت تتوالى إلى يومنا هذا، حتى ليصعب عد أسماء المترجمين ومن عدد من اللغات بالإضافة إلى الروسية، أما أنا، وتحديدا في العقدين الأخيرين، لم أعد أقرأه إلا نادرا، وفي حالة أن أجد له مسرحية أو قصة قصيرة، أعيدت ترجمتها ونشرت في صحيفة أو مجلة، فأعود إليه بكل شغف، وكأنني أقرأه للمرة الأولى، لكن بين الحين والحين أجد في بريدي الإلكتروني نصا ما، قصيدة أو قصة أو مقالة، منها ما هو جديد، ومنها ما هو قديم، يبعث بها إلي أحد الأصدقاء وكأنه يريدني أن أشاركه في ما أعجب مما قرأ. إن إعادة قراءة بعض النصوص، لا تعني مجرد تكرار ما قرأ الإنسان من قبل، بل لطالما وجد فيها جديدا، بتأثير متغيرات وعي المتلقي، وقد ترافقنا بعضها طيلة زمن قراءاتنا، فلا نمل ما نقرأ ولا يتكرر ما وجدنا في قراءاتنا السابقة، وما أعادني إلى تشيخوف، الذي قال عنه السارد الكبير الراحل فؤاد التكرلي: لا حدود للخبرات التي يمكن أن توفرها قراءة تشيخوف لكاتب القصة القصيرة، أقول ما أعادني هو وصول قصة “المغفلة” على عنواني الإلكتروني، وقد بعثت بها زميلة قاصة مقترنة بقولها: إنها من أجمل ما قرأت ليس لتشيخوف، بل في كل ما قرأت من قصص. وهذه القصة جميلة حقا، سواء في مضمونها أم في بنائها الفني، حيث تتحدث عن مربية روسية عملت لمدة شهرين عند إحدى العوائل، ولم تطالب بأجورها، مما لفت نظر رب العائلة، فعمد في مفارقة لا أساس لها، إلى محاسبتها، وكان يخصم من مستحقاتها التي كان قد تم الاتفاق عليها، لأخطاء لم تقترفها وتقصير في هذا الأمر أو ذاك، لم تفعله، أما هي فكانت تستسلم أمام كل ما يوجهه لها رب العائلة، وبعد هذه المحاسبة المفتعلة، يعرض عليها مبلغا ضئيلا من المال، فتقبله من دون اعتراض، وحين يسألها، مستنكرا، لم ارتضيت كل ما قلته عنك، وأنت لم تفعلي أي شيء مما قلت، ثم قبلت بالمبلغ الذي عرضته عليك وهو أقل بكثير من حقك، أجابت: لأن بعض من عملت في بيوتهم لم يدفعوا لي أي شيء. وما أراد تشيخوف قوله في قصة “المغفلة” ومن خلال شخصية المربية يوليا فاسيليفنا المستسلمة الخانعة، الراضية بكل ما يقوله ويعمل به رب العائلة، لا تعترض ولا تدافع عن حقوقها، وهي تعرف أن كل ما قاله وعمل به يدخل مدخل العسف والظلم، هو إحالة إلى ما يتعرض له المواطن من ظلم السلطة، أي سلطة، حيث السبب هو خنوع المواطن وجبنه، بل وغفلته، ومثل هذا السلوك يؤدي إلى تغول السلطة وتغييب العدالة وضياع حقوق الإنسان، فردا أو جماعة أو شعبا.
مشاركة :