تستخف بعض الأسر بالتغيرات السلوكية التي تنتاب أحد أفرادها بعد مروره بتجارب صعبة، مثل حوادث السيارات والحرائق والكوارث ومشكلات الدراسة والعمل أو المشكلات العاطفية، حتى تتفاقم ويدخل في مرحلة الاضطرابات بما تحمله من تداعيات نفسية، تبدأ بالغضب والعزلة وقد تمتد إلى الاكتئاب وفقدان الرغبة في الحياة. ويعاني الأفراد الذين يمرون بتجارب قاسية من اضطراب نفسي يبدو بسيطا ويشمل القلق ومشكلات النوم والكوابيس ومستويات مرتفعة من الحزن، لكن تتزايد التداعيات لدى البعض لتصل إلى حالة نفسية معقدة قد تبلغ درجة فقدان الشعور والرغبة في إيذاء الذات والآخرين. ويقول علي. م (20 عاما) إن بعض اللحظات من الشرود والعبوس تنتابه كلما تذكر حادث السيارة الذي أودى بحياة شقيقه وجعله طريح الفراش بالمستشفى لمدة شهر ونصف الشهر، ورغم مرور عام على الحادث لا تزال تفاصيله تطارده، ويشعر في نظرات والديه بنوع من التأنيب، كما لو كان السبب في موت شقيقه بعدما ألح عليه لتوصيله يوم الحادث. يعاني علي كثيرًا من تبعات الحادث على الصعيد النفسي، وتخفي أسرته أمر مرضه على المحيطين بها، كما لو كان أمراً معيبًا، ولم تفكر في اللجوء إلى طبيب نفسي إلا بعدما حاول قطع شرايين يده، ونصح الجراحون والديه بضرورة حصوله على دعم نفسي لمنع تكراره محاولة الانتحار. لا يلجأ الوالدان كثيرا إلى الاستشارات النفسية إلا بعد وصول المريض إلى مرحلة “الاضطراب المعقد” الذي يشمل الانعزال عن الأقران ومحيط الأسرة، أو تعاطي الخمور والمخدرات وإدمان المسكنات، أو التهديد بالانتحار حال معاتبة المحيطين له بخصوص سلوكه السيء. تصبح مشكلة تداعيات ما بعد الصدمة متبادلة بين الأسرة ومريضها، فالجهل بكيفية التعامل مع حالته يفاقم آلامه، ومن الضروري منح المريض جرعة متوازنة من الاهتمام والحب ويقول علي لـ”العرب”، إن الشعور بالرتابة والحزن وهجوم الذكريات لم يفارقه ليلا نهارا، فكان يستيقظ ولديه شعور بالاختناق وألم شديد في الصدر ودقات متسارعة للقلب حتى استطاع أخيرًا أن يتجاوز الأمر. ورغم دخول الشاب مرحلة التوازن والاستقرار النفسي فإنه لم يتخلص من “فوبيا” ركوب السيارات الخاصة، ويفضل وسائل النقل الحكومية في تحركاته اليومية، رغم العروض المستمرة من أصدقائه في الجامعة بتوصيله بسياراتهم الخاصة. وتلعب الأسرة دورا مهما في إعادة الاستقرار النفسي للفرد المتعب نفسيا وفي مساعدته على تجاوز أزمته ثم على التكيف والتعايش اليومي مع الوضع، ولكن غالبية أفراد الأسر العربية تهمل هذا الدور ويشعر بعض الكبار بأنه دور تافه ويرددون مقولات من قبيل أنّ الزمن كفيل بعلاج الوضع النفسي خاصة في الأسرة التي تغيب عنها أساليب الحوار والنقاش في مختلف مشكلات الأفراد سواء بين الآباء والأبناء أو بين الإخوة. وبقطع النظر عن إدراك أهمية دور الأسرة المحوري في مساعدة الفرد على تجاوز مشكلاته وحالاته النفسية الصعبة فإن البعض لا يعرف كيف يلعب هذا الدور ويقعون في أخطاء في التواصل قد تزيد الوضع سوءا، ومن بينها تكرار الحديث في نفس الموضوع إلى درجة تصيب الطرف المقابل بالملل وتجعله لا يستمع للتوجيهات والنصائح. إلى جانب عدم معرفة كيفية تحديد واختيار الوقت المناسب لفتح الحديث حول المشكلة، وتقديم المساعدة على الفور حال حدوث ما يهدد حياة الفرد. ويرى مختصون في علم النفس أن اضطراب ما بعد الصدمة يصيب السيدات بصورة أكبر لتعرضهن لحوادث مرتبطة بثقافة العيب في المجتمعات المغلقة، مثل الاختطاف والتحرش الجنسي والاغتصاب وعجزهن عن التفريغ النفسي عما يدور داخلهن من مشاعر متضاربة بين الشعور بالظلم والعجز والاشمئزاز من المجتمع ككل. وتتلقى (م. غ) 19 عامًا، التي نجت من محاولة اختطاف واغتصاب، علاجًا من تداعيات الحادث بعد تفاقم شعورها بالغضب الشديد الذي أوصلها إلى إيذاء أشقائها الصغار لعجزها عن تحمل أي أصوات مرتفعة في المنزل، كما عانت من شعور غريب بالضيق من سذاجة المضامين التي تقدمها برامج الصغار حول انتصار الخير دائما على الشر.ولجأت أسرة الفتاة لعلاجها بإشراكها في برامج للعلاج النفسي عبر الإنترنت منحتها مساحة أكبر للكتابة عن حالتها ومشاعرها دون خجل من معالجين لا تعرفهم، وقام والداها في الوقت ذاته بتنظيم أنشطة رياضية وعائلية عبر السفر لأماكن سياحية. لكن لا تزال الفتاة تصاب بفزع لدى رؤيتها مشاهد عن الاغتصاب في الأعمال السينمائية، وتتحاشى قراءة صفحات الحوادث في الصحف أو عبر شبكة الإنترنت، لكن حالتها النفسية تحسنت وأصبحت قادرة على النوم دون جرعة طبية معتادة من الحبوب المنومة. ولم يعد اضطراب ما بعد الصدمة قاصرا على الحوادث العنيفة أو ضحايا الحروب وامتد ليشمل حالات الطلاق أو فقدان الأحبة والتي تضرب المرأة بشكل أكبر، وتدفعها إلى شعور بالصدمة قد تستغرق فترة طويلة لتجاوزه. وتؤكد علياء مجدي، استشاري العلاقات الزوجية والأسرية، أن تلك الاضطرابات قد تصل إلى حالة مستمرة من عدم الشعور بالأمان، فيسعى الفرد المتعب إلى البحث عن فقيده عبر العودة لفترات زمنية قديمة، كأن يعود كهل لشراء منتجات الأطفال الغذائية لابنه المتوفى وقد تصل حالة البعض إلى العودة لمرحلة الجنين أو السكون (الكتاتونيا). وتضيف مجدي، لـ”العرب”، أن الأسرة مطالبة بمنح الأبناء درجة عالية من الاستقلال في المشاعر والتدريب على ثقافة فقد الأشياء والأشخاص المحبوبين، ولو بشراء حيوانات أليفة قصيرة العمر كي يكونوا أقوى نفسيًا حال نفوقها، مع إشراكهم في أنشطة رياضية منذ سن مبكرة حتى يتخلصوا من التوتر النفسي. ووفق منظمة الصحة العالمية فإن المنطقة العربية شهدت ارتفاعا كبيرًا في أعداد من يعانون الاكتئاب والقلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة وانفصام الشخصية لأسباب متعددة من أهمها الحروب التي تصيب تداعياتها 1 من بين كل 5 أشخاص. وتتزايد مسؤولية الأبوين حال مرور الأبناء بوقائع مفزعة أو تعرضهم لاعتداءات بدنية أو جنسية، فالصغار لديهم شعور بالعجز ويسهل دخولهم مرحلة الاضطرابات واستحضار الحوادث في أذهانهم باستمرار وطوال العمر. ويظل شعور المريض بوجود العائلة بجانبه عنصرًا أساسيًا في مواجهة تداعيات الأزمات النفسية، بحسب المختصين النفسيين، ويمكن للأبوين القيام بأنشطة تساعد على تشتيت تركيز المريض عبر دعم انغماسه في ألعاب تتطلب قدرا عاليا من التفكير أو أعمال فنية كوميدية تنتزع منه الضحكات بشرط معرفتهم مضمونها أولاً حتى لا تكون قصتها قريبة من الحادث الذي مر به المريض.وتظهر الدراسات النفسية أن الأسرة مطالبة ببذل جهد مضاعف في مساعدة الأطفال الذين يعانون من الاضطراب على مستوى الأداء التعليمي، فيكون الإنجاز المدرسي لديهم منخفضا عن أقرانهم الأسوياء، وطموحهم في تحقيق الذات وبناء المستقبل ضعيفا. وتبدو المشكلة أكثر خطورة في حال عمل أحد الوالدين أو كلاهما بمهن تتطلب التعاطي اليومي مع ضحايا الحوادث كالجنود والأطباء والممرضين وعناصر الإطفاء والأجهزة الشرطية والذين يصابون أحيانًا بحالة من عدم الاستقرار النفسي، وبالتالي يجب أن يحرصوا على أن لا تؤثر عليهم وأن لا تنتقل تداعيات هذا التأثر للأبناء. وتقول بحوث حديثة إن العناصر النسائية العاملة في مهن خطيرة هن الأكثر عرضة للصدمات النفسية، وتأكد أن النساء اللاتي يعملن في فرق الإطفاء أكثر عرضة للمعاناة من اضطراب الضغط النفسي من زملائهن الرجال. وأوضح جمال فرويز، استشاري الصحة النفسية، أن تداعيات ما بعد الصدمة تصيب الأشخاص الذين لديهم استعداد نفسي من الأساس، ولهم مؤشرات بدنية أولية مثل الصداع واضطراب الأعين وجفاف الريق وآلام المعدة والقولون العصبي، وتصل لدى بعض البالغين إلى التبول اللاإرادي وتصبح المشكلة متبادلة بين الأسرة ومريضها، فالجهل بكيفية التعامل مع حالته يفاقم آلامه، وعليه من الضروري على العائلة منح المريض جرعة متوازنة من الاهتمام والحب. وأكد فرويز، لـ”العرب”، أن الأسرة عليها دور كبير في تقديم الدعم للعلاج النفسي وعدم الاكتفاء بتلبية الاحتياجات الحياتية فقط من مأكل وملبس، فالأطفال المصابون بالاضطراب تتواصل معهم تداعيات الاكتئاب والخوف والتوتر، مهما تقدموا في العمر، وتحدث عملية استرجاع الذكريات السيئة لديهم لمجرد رؤيتهم تجارب مشابهة. وتتكدس في عيادات الأطباء النفسيين حالات لم تستطع العودة إلى الاستقرار النفسي بعد مرورها بأحداث صعبة، خصوصًا أحداث الاعتداء الجنسي والاغتصاب والانتهاك الجسدي، ولا تشهد قائمة الضحايا اختلافات على مستوى العمر والنوع.
مشاركة :