اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الآية 53 من سورة الزمر.ورأى البعض أن المعنيين بتلك الآية هم من أهل المدينة الذين كانوا يقولون «ما لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئًا»، فيما ألمح آخرون إلى أنه عني بها قوم من أهل الشرك ظنوا أنه لن ينفعهم الإيمان مع ما قد سلف منهم، وفسر غيرهم أن المعنيين هم المؤمنين حين سألوا الله المغفرة، وكانوا يصيبون الإسراف.وذكر البعض أن أناسا أصابوا ذنوبًا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية، وقال آخرون بل عني بذلك أهل الإسلام، وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء، قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقيل: إنما نـزلت هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم, فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة، وقال غيرهم أنها للناس أجمعين.وذهب مفسرون آخرون إلى أنها عنت قوما كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء، إلا أن وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عم بقوله «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ «جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف».قال الحاكم ج2 ص435، حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل القاري، عن عثمان بن سعيد الدارمي، الحسن بن الربيع، عن عبد الله بن إدريس حدثني محمد بن إسحاق، قال وأخبرني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر، قال كنا نقول: «ما لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئًا، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته، فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة أنـزل الله فيهم الآية».وأضاف عمر: " فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام بن العاص: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها قال: فألقى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا قال فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة".وأكد الحاكمِ أن هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأخرج الحديث أيضًا ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام ج1 ص475، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج6 ص61 رواه البزار ورجاله ثقات، هذا وقد تقدم بعض ما يتعلق بهذه الآية في سورة الفرقان. وأشار الطبري في تفسيره إلى أن البعض قال: "عني بها قوم من أهل الشرك، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا، وقتلنا النفس التي حرّم الله, والله يعد فاعل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان، فنـزلت هذه الآية".واستدل بما ورد عن محمد بن سعد، عن ثني أبي، عن ثني عمي، عن ثني أبي , عن أبيه, عن ابن عباس، في تأويل المعنيون بالآية الكريمة، أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان, ودعا مع الله إلها آخر, وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له, فكيف نهاجر ونسلم, وقد عبدنا الآلهة, وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟، فأنـزل الله: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ».ويعني لا تيأسوا من رحمتي, إن الله يغفر الذنوب جميعا، وقال: «وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ»، وإنما يعاتب الله أولي الألباب، وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان, فإياهم عاتب, وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه, أن لا يقنط من رحمة الله, وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف، والذنب الذي عمل.وذكر الله في سورة "آل عمران" المؤمنين حين سألوا الله المغفرة, فقالوا : «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا »، فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم.واستشهدوا بما حدث به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله «الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» قال: قتل النفس في الجاهلية.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نـزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ وأصحابه .وحدث يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني أبو صخر, قال: قال زيد بن أسلم, إنما هي للمشركين، وحدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة,: ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية, فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم, فدعاهم الله بهذه الآية.وعن محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: هؤلاء المشركون من أهل مكة، قالوا: كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى، أو قتل، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها، فأنـزلت فيهم هذه الآية.ونوه بما ورد عن ثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية, فلما بعث الله نبيه قالوا: لو أتينا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فآمنا به واتبعناه، فقال بعضهم لبعض: كيف يقبلكم الله ورسوله فى دينه؟ فقالوا: ألا نبعث إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا؟ فلما بعثوا، نـزل القرآن.وأوضح فيما جاء عن ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي، قال: تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك، وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق: لا بل حدث فأصدّقك، فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية فرجا في القرآن «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله» فقال مسروق: صدقت.وأضاف آخرون: بل عني بذلك أهل الإسلام، وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقالوا: إنما نـزلت هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم, فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة.واستندوا إلى ما حدث به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما أنـزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد, ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا، فافتنوا، كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه، فنـزلت هؤلاء الآيات، وكان عمر بن الخطاب كاتبا، قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، إلى أولئك النفر، فأسلموا وهاجروا.وكذلك ما حدث يعقوب، عن ثنا ابن علية، قال: ثنا يونس، عن ابن سيرين، قال: قال عليّ رضي الله عنه: أي آية في القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن، فقال علي: ما في القرآن آية أوسع من «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» ... إلى آخر الآية.وعن أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، قال: دخل عبد الله المسجد، فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال، قال: فجاء حتى قام على رأسه، فقال ما يذكر أتقنط الناس الآية، وعن يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه قال في هذه الآية: هي للناس أجمعين.حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا ابن لهيعة, عن أبي قنبل، قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: ثني أبو عبد الرحمن الجلائي، أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "ما أُحِبُّ أنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا فِيها بهذه الآية، فقال رجل: يا رسول الله, ومن أشرك؟ فسكت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , ثم قال: "ألا وَمَنْ أشْرَكَ، ألا ومَنْ أشْرَكَ، ثلاث مرات".رآى آخرون: نـزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، مستشهدين بما جاء عن ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا أبو معاذ الخراساني، عن مقاتل بن حيان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نرى أو نقول: إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة، حتى نـزلت هذه الآية «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ».فلما نـزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش، قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، حتى نـزلت هذه الآية «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» فلما نـزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك, فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه, إن لم يصب منها شيئا رجونا له.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك, لأن الله عم بقوله « يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» جميع المسرفين, فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك، وإنما عنى بقوله «إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» لمن يشاء، كما قد ذكرنا قبل، أن ابن مسعود كان يقرؤه: وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه، فقال: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: «إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا»، فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه, إن شاء تفضل عليه، فعفا له عنه، وإن شاء عدل عليه فجازاه به، وأما قوله «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ» فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله.
مشاركة :