يوسف أبو لوز لو طلبت من كاتب أردني، وتحديداً من منطقة غور الأردن حيث يعيش هناك ليكتب مشاهداته وانطباعاته عن البحر الميّت، لما كتب في مثل اللغة الشعرية المندهشة وفي مثل الالتقاطات البكرية التي دوّنها الشاعر اللبناني عبده وازن بعد أوّل زيارة له للبحر الميّت، ونشر مشاهداته تلك في مجلة «الشارقة الثقافية» = عدد يونيو/ حزيران 2019. أمّا بالنسبة لنا نحن مواليد تلك المنطقة المطلّة أو المحيطة بالبحر، فكأننا كما لو نتعرّف إلى بحرنا للمرة الأولى على رغم أننا ولدنا ونشأنا حوله. إن القصد هنا هو المكان ورؤيته واعتياده، ثم الكتابة عنه بإشارات مختلفة وصور مشبّعة مرة ثانية بالدهشة، ذلك أن هذه الدهشة بالذات تفقد بريقها عند سكان المكان الذين اعتادوا كل شيء.. كل كائن وكل جماد وكل صورة، والاعتياد يقتل الدهشة. يرقب عبده وازن الطريق إلى البحر الميت، وهي الطريق التي سلكها الكثيرون من أهل تلك المنطقة، ويلاحظ أن الطريق إلى البحر ملتوية ومتعرّجة لكنها بالنسبة إليه غير وعرة. إنها طريق غير وعرة؛ لأن الكاتب نفسه يعرف الوعر الجبليّ في الجغرافيا اللبنانية حيث بلاده، ثم يلاحظ أن جسر العودة على نهر الأردن، وهو الجسر الذي يعبره الفلسطينيون إلى بلادهم، هو جسر غامض ومرتجف حيث يلوح من البعيد، أما البحر نفسه فهو يثير الخشية، ولذلك لم يستسلم الكاتب كلياً للماء المالح، وأخيراً، يعطي معلومة ربما لا يعرفها الكثير من القرّاء، وهي أن هناك من طرح مشروع إغراق البحر الميّت في البحر الأبيض المتوسط، إغراق بحر في بحر. في النصف الأول من القرن العشرين كانت باريس مدينة الدهشة والغرابة الفاتنة بالنسبة إلى الكتّاب المصريين. الكتّاب وغير الكتّاب. برج إيفل أعجوبة والمعمار الباريسي كأنه نازل من السماء إلى الأرض بخصوصيته المدهشة، ونهر السين أعجوبة أخرى، وبعدما كثرت الأرجل سائرة إلى عاصمة النور الأوروبية أخذت الدهشة تذوب رويداً رويداً، فيمرّ الزائر، مثلاً، بالقرب من البرج من دون حتى أن يلتفت صوبه. قبل حوالي ثلاثة أعوام أو أقل من ذلك زرت مصر للمرة الأولى في حياتي، وكتبت من القاهرة سلسلة مقالات على مدى نحو أسبوعين قال لي الكثير ممّن قرأها من أصدقاء مصريين أنهم يومياً بين ميدان طلعت حرب، ومقهى ريش، وساحة التحرير ولم يَرَوا بعض التفاصيل الصغيرة التي وردت تلقائياً في تلك المقالات. نرى المكان للمرة الأولى فيعطينا بعضاً من أسراره للمرة الأولى أيضاً، كأن هذا السرّ هو هدية المكان للإنسان الذي، على نحو ما، يتحوّل إلى طفل وهو يرى البحر مثقلاً بالملوحة والجفاف، وجسر العودة لم يعد الفلسطيني عبره إلى بلاده. yabolouz@gmail.com
مشاركة :