تتوالى مباريات النسخة الثانية والثلاثين لبطولة كأس أمم أفريقيا ، فيما يقترن هذا العرس الكروي الأفريقي المستمر بإيقاعاته المبهجة على الملاعب المصرية حتى التاسع عشر من شهر يوليو الجاري بلغة الساحرة المستديرة ومصطلحاتها التي تستقبلها وتتفاعل معها كل لغات العالم ومن بينها لغتنا العربية الجميلة.وإذا كانت لعبة كرة القدم وهي اللعبة الأكثر شعبية في العالم تتطور باستمرار حتى على مستوى التقنية في الملاعب مثل "تقنية حكم الفيديو المساعد" المعروفة بالاختصار الشهير "الفار" فإن هذه اللعبة بمفرداتها ومصطلحاتها واختصاراتها اللغوية تترك تأثيرا واضحا في كل لغات البشر حول العالم.وقد تثير هذه الكلمات الجديدة طرائف ومفارقات وابتسامات في بطولات كروية قارية وعالمية على غرار ماحدث في مباراة بين منتخبي البرازيل وفنزويلا في بطولة "كوبا أمريكا" التي تختتم في السابع من شهر يوليو الحالي عندما ألغت تقنية حكم الفيديو المساعد ثلاثة اهداف للمنتخب البرازيلي الذي يلعب على أرضه ليهتف المدير الفني لمنتخب فنزويلا رافائيل دوداميل بعد ان انتهت المباراة بالتعادل السلبي:"يعيش الفار"!.وخلافا لما يسميه أكاديميون ونقاد ثقافيون في الغرب "بالحروب اللغوية" في إشارة للتنافس العالمي بين لغات مثل الإنجليزية والفرنسية ، فإن "الساحرة المستديرة" بطبيعتها الأصيلة وطابعها الحميم تنبذ هذا النوع من الحروب.ولأن كرة القدم لعبة جماهيرية بامتياز فهي لاتعرف "اللغة المتعالية وإنما هي لغة صديقة للجميع" وحتى في الكتب التى تتناول علاقة اللغة بكرة القدم والتأثيرات المتبادلة تتردد أسماء مشاهير فى هذا النوع من الدراسات مثل الكاتب هيرفى فرومر الذى يتوجه بكتاباته لرجل الشارع لشرح ماقد يستعصى على الذهن من مصطلحات رياضية ويرى البعض من المثقفين البارزين في الغرب مثل الكاتب جاك بيل ان "لغة كرة القدم هى لغة عالمية تتعدى الحواجز والتقسيمات بين ستة مليارات نسمة وربما أكثر هم سكان هذا العالم".وفي كتابه "لغة اللعبة : كيف تفهم كرة القدم" يتحدث لورنت ديوبويس بلغة مفعمة بالحب لهؤلاء الذين يكتبون "اجمل الجمل الكروية على المستطيل لأخضر" فيما يؤكد على أن كرة القدم ليست فقط اللعبة الأكثر شعبية في الكوكب الأرضي وإنما هي أحد أهم الروابط التي تجمع الإنسانية على اختلاف الثقافات وتمنح البهجة للكرة الأرضية كما يتجلى الآن في العرس الكروي الافريقي على المستطيل الأخضر المصري.وإذا كان توم ويليامز المقيم في لندن يقول في كتابه او معجمه الكروي "هل تتحدث بلغة كرة القدم " :"ان تتحدث بلغة كرة القدم فهذا يعني انك تتحدث بلغة تجمع مابين الف لغة ولسان" فان الثقافة المصرية ليست بمعزل عن العلاقة بين لغتنا العربية الجميلة و اللعبة الجميلة. وفى دراسة أعدها الأكاديمي المصري الدكتور محمد داوود وهو أستاذ جامعى وخبير بمجمع اللغة العربية في القاهرة عن اللغة وكرة القدم تتجلى ملامح " لعلم اللغة الرياضى" من خلال رصد حركة اللغة فى واحد من اوسع مجالات حياتنا الاجتماعية واكثرها تأثيرا اى مجال لغة كرة القدم التى تتسم بالتشويق والإثارة والمتعة ".فاللغة.. أي لغة تتطور وتنمو وتعرف المزيد من الكلمات التى يضيفها التعامل اليومى والتقارب مع العالم فضلا عن الكلمات الجديدة التى يضيفها الشباب من خلال العصر الذى يعيشونه فيما جاءت هذه الدراسة المصرية عن اللغة وكرة القدم جاءت لتشهد على "عظمة اللغة العربية فى مرونتها وعصريتها واستيعابها كل جديد فى مجالات الحياة المختلفة وقدرتها على التطور وفاء باحتياجات العصر وعلى اهمية اللغة فى الارتقاء بفن التعليق الرياضى لخطورة لغة المعلق وآثارها إيجابا أو سلبا فى حياتنا اللغوية".والدكتور محمد داود يقدم فى كتابه معجمين لألفاظ وتعبيرات فى كرة القدم أحدهما باللغة العربية والآخر باللغتين الانجليزية والفرنسية فيما كان الاتحاد العربى لكرة القدم قد أنجز معجما للغة الرياضة يقع فى ثلاثة أجزاء أعد إعدادا علميا باشراف اساتذة متخصصين وتم فيه تعريب جميع الألفاظ الخاصة بالرياضة عامة وكرة القدم بصورة خاصة.وفى مجال لعبة كرة القدم- يورد الدكتور محمد داوود مئات المفردات والتعابير الشائعة على السنة المعلقين من بينها "ارتداد..مراوغة..زحلقة..تسديدة.. صد.. صاروخ..تصويبة..قذيفة..تمرير..تمويه..جملة تكتيكية..جون..الاستحواذ على الكرة..استلم برشاقة الغزال..صاروخ ارض جو..غمز الكرة..فتح البرجل..كتم الكرة..كرة بينية..كرة مختومة بالشمع الأحمر..كرة لاتصد ولاترد..كرة عابرة للقارات..كرة بمقياس 6 ريختر..لمسة سحرية..تمريرة ساحرة..فتح اللعب..تمريرة قاتلة..سيمفونية كروية.. وكرة من الزمن الجميل".ولا جدال أن لغة كرة القدم تتغير وتمضي في تطور بحكم طبيعة اللعبة ذاتها التي يذهب بعض النقاد إلى أنها تتغير وتقدم الجديد كل عامين ومن الطبيعي في هذا السياق أن تتوالى كتب ومعاجم جديدة للعبة الجميلة في العالم مثل ذلك الكتاب الذي صدر بالإنجليزية بعنوان :"هل تتحدث بلغة كرة القدم ؟" وهو في الواقع قاموس أو معجم لكلمات ومصطلحات وتعبيرات ومفاهيم كروية حول العالم.وفي هذا المعجم الكروي الجديد الذي وضعه توم ويليامز الكثير من الكلمات والصيغ اللغوية المدهشة التي ابتكرتها كرة القدم حول العالم فيما يمكن للقاريء المتذوق لجماليات اللغة ان يشعر بوضوح بالجهد الكبير الذي بذله المؤلف بحذق واتقان في اعداد معجمه ليخرج بهذه الصورة البديعة.وهذا الجهد اللغوي الكبير في عالم الساحرة المستديرة يتجلى في جمع وتصنيف الكثير والكثير من الكلمات والمصطلحات الكروية المتداولة في شتى انحاء العالم ليكتشف قاريء الكتاب الجديد مدى ثراء وطرافة واحيانا غرابة ومراوغات المفردات التي يستخدمها المشجعون والمعلقون فضلا عن اللاعبين على المستطيل الأخضر حول العالم ثم ان الكثير من تلك المفردات تبدع في تلاوين البهجة كسمة تقترن باللعبة الجميلة.ومن التعبيرات الطريفة التي ابتدعها المشجعون في هولندا :"الساق الشوكولاتة" بينما يشهق الألمان مرددين كلمة "تور" عند احتساب هدف مشكوك في صحته فيما يطوف المؤلف عبر 89 دولة ليلتقط غريب الكلمات والتعبيرات في عالم الساحرة المستديرة من بلدان كفنلندا وكوريا الجنوبية.ولم يغفل توم ويليامز تقصي الأصول والأسباب التاريخية لظواهر لغوية كروية غريبة حقا وعابرة للقارات مثل استخدام النيجيريين في لغتهم الدارجة تعبير" دندي يونايتد" وهو اسم فريق كروي اسكتلندي كمرادف للحمق ومعنى "للأبله" أو "المعتوه"والسبب يرجع لسلسلة من الحماقات الكارثية التي ارتكبها الفريق الاسكتلندي أثناء جولة في عام 1972 يفترض انها "ودية" بهذه الدولة الافريقية !.ويشكل المعلقون جزءا أصيلا من عالم الساحرة المستديرة وخاصة في البطولات الكروية الكبرى كالعرس الكروي الافريقي الحالي فيما تنشر بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية من حين لآخر قوائم بأسماء افضل المعلقين والمذيعين .ولن ينسى تاريخ الساحرة المستديرة وذاكرتها شيخ المعلقين الرياضيين المصريين والعرب محمد لطيف والذى يوصف بأنه "صاحب اياد بيضاء على كرة القدم عندما حولها الى متعة مسموعة ومرئية فى كل بيت مصرى وعربى ليزيد الساحرة المستديرة سحرا فوق سحرها وشعبية على شعبيتها".فإذا كان صوت المعلق الكروى على شاشة التليفزيون قد أصبح عنصرا أساسيا فى متعة الساحرة المستديرة فان الراحل محمد لطيف الذي قضى في السابع عشر من مارس عام 1990 هو عميد المدرسة التى رسخت هذا الاتجاه مع تفرد عجيب فى الأسلوب وخفة الظل والنكهة والقفشات والذكريات والطرائف والصيحات والآهات واللزمات والمداعبات كعاشق يتغزل فى الكرة عندما تسكن المرمى وهو صاحب القول المأثور "الكورة اجوان".كما عرف جيل الرواد من المعلقين الكرويين على شاشات التلفزيون اسماء مرموقة مثل على زيوار وحسين مدكور وميمى الشربينى وابراهيم الجوينى وحمادة إمام ومحمود بكر ومدحت شلبى واغلبهم كانوا يوما ما من اللاعبين البارزين على المستطيل الأخضر ولكل منهم مصطلحاته التلفزيونية وأسلوبه اللغوى الذى يجنح احيانا نحو العامية المفرطة.ولئن كانت كرة القدم هي في الأصل والحقيقة لعبة البهجة والمرح فإن المعلق الرياضي الراحل محمود بكر الذي قضى في الثالث من فبراير عام 2016 لطالما أمتع الجماهير بتعليقاته الطريفة بلغة سهلة وفهم عميق للخبايا الفنية للساحرة المستديرة منذ ان كان لاعبا متميزا في فريق نادي الأولمبي بالثغر السكندري فيما كان يبث اجواء البهجة والمرح كأحد ملوك مايسمى "بالافيهات الرياضية" على الشاشة الصغيرة.ومن أطرف فصول كتاب الدكتور محمد داود عن اللغة وكرة القدم ذلك الاستبيان الذى أجراه حول آراء المعلقين فى اللغة وكرة القدم وأهمية الاعداد اللغوى للمعلق قبل ممارسة التعليق وتطور التعليق اللغوى منذ عصر شيخ المعلقين الراحل محمد لطيف وحتى المرحلة الراهنة فضلا عن اتجاهات مدرسة التعليق المصرية حيال مدارس التعليق الرياضى فى العالم ومدى الشعور بالعجز اللغوى احيانا ازاء موقف من المواقف المفاجئة فى أحداث المباراة.وتطرق داود فى دراسته لأهم صفات المعلق الرياضى لغويا وتفضيله للفصحى او العامية ام الجمع بينهما حسب الموقف واهمية تفضيل استخدام بدائل عربية للألفاظ الأجنبية فى التعليق على مباريات كرة القدم ومدى فائدة الدراسات اللغوية فى الرقى بلغة المعلق.فتعليقات هؤلاء المعلقين الكرويين على المباريات عبر الشاشة التليفزيونية "تشعل الجدل بين لغة الشاعر ولغة الشارع" او بين اللغة الفصحى واللغات الدارجة واللهجات العامية ليبلغ تأثير "الساحرة المستديرة" فى الحياة اليومية مبلغا دفع بالفعل بعض المجامع اللغوية ومن بينها مجمع اللغة العربية فى القاهرة والشهير "بمجمع الخالدين" لبحث العلاقة بين اللغة وكرة القدم.وفي سياق اهتمام مجمع الخالدين بالعلاقة بين اللغة وكرة القدم والرياضة ككل عكفت لجنة الفاظ الحضارة فى مجمع اللغة العربية لسنوات طويلة على إنجاز أول معجم عربى فى التربية الرياضية واسهم في جهودها اباء ثقافيون مثل الدكتور الراحل امين الخولى.وعلى المستوى العالمى عرفت مباريات كرة القدم مذيعين ومعلقين لامعين مثل باتريك بارسلى وبارى ديفيز الذى شملت اهتماماته ايضا التعليق على مباريات التنس وبعض الالعاب الاولمبية الأخرى واقترن صوته على مدى نحو 40 عاما عاما بهيئة الاذاعة البريطانية "بى بى سى" فضلا عن بيتر جونز ومارتين تايلر وجون موستون وريموند جليندينج ونيجيل ريد.ولن يختلف الأمر كثيرا باختلاف الألسن واللغات عندما يتحدث مشجعو كرة القدم عن المعلقين والمذيعين الذين يفضلون أن يتابعوا المباريات على شاشة التليفزيون بتعليقاتهم ففى الغرب كما فى مصر والعالم العربى ككل ستجد ميلا واضحا نحو هؤلاء المعلقين الكرويين الذين يتميزون بالمعرفة والمعلومات الغزيرة مع النبرة المتفردة والصوت الخاص كالبصمة التى لاتتكرر فضلا عن خفة الظل والقدرة على اثارة الدهشة.وإذا كانت اساطير كروية عالمية قد انتقلت من اللعب على المستطيل الأخضر للتعليق على المباريات مثل الفرنسي تييري هنري الذي تحول لمعلق ومحلل كروي على شاشات التلفزيون بعد ان اعتزل المستطيل الخضر كلاعب في أواخر عام 2014 فهي ظاهرة من الظواهر البارزة فى عالم الساحرة المستديرة المصرية حيث تحول بعض اللاعبين الذين اعتزلوا المستطيل الأخضر الى مذيعين ومعلقين ومحلليين على شاشات التلفزيون لمباريات كرة القدم.ومن الطريف أن تكون الساحرة المستديرة فى بطولاتها الهامة مثل العرس الكروي الأفريقى الحالي بمصر وهو عيد أعياد الكرة الأفريقية مناسبة للمقارنات بين المعلقين على المباريات عبر شاشات التليفزيون وان تعيد للأذهان عبارات شهيرة لمعلقين راحلين فيما تستمر الساحرة المستديرة في تقديم جديد المدهشات وتتفاعل لغتنا الجميلة مع اللعبة الجميلة وإبداعات المستطيل الأخضر!.
مشاركة :