عند مناقشة قانون الأحوال الشخصية في مجلس 1981، اتفق الأعضاء على استثناء أتباع المذهب الجعفري من تطبيق أحكام القانون، على أن تطبّق عليهم أحكامهم الخاصة بهم. وهذه بلا شك جزئية إيجابية من حيث المبدأ، ولكنها للأسف ارتبطت بمفهوم خاطئ تمثّل في إصرار النوّاب على خلو صيغة الاستثناء من المفردتين: «سنة وشيعة». وكان ذلك بدافع حرصهم على حماية الوحدة الوطنية. حيث كان ترسيخ الوحدة الوطنية في تلك المرحلة أمراً في غاية الأهمية، لأن مجلس 1981 بدأ بتصدع طائفي عميق، تمت معالجته - إلى درجة ما - من خلال معارضة النواب الشيعة لمشروع تنقيح الدستور.بالنسبة للنواب الشيعة، كان ذلك الاستثناء إنجازاً تاريخياً لسببين: الأول حماية حق المواطنين الشيعة في اتباع أحكام الأحوال الشخصية وفق مدرسة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، والثاني تعزيز اندماجهم وشراكتهم مع زملائهم في المجلس.ولكن بعد تطبيق قانون الأحوال الشخصية أعلاه، تبينت سلبياته على المواطنين الشيعة، وهي متعددة وجسيمة ولكنني سأكتفي بالإشارة إلى أنه تسبب في اعتماد وتوثيق الكثير من حالات الطلاق غير الشرعي بين الشيعة. فتعالت الأصوات المطالبة بإنشاء دائرة الأحوال الشخصية الجعفرية بدرجات التقاضي الثلاث. ولكن هذه الأصوات لم يستجب لها إلا بعد مرور سنوات طويلة، وكانت بوادرها في عام 2004 حين قدّم أول اقتراح بقانون لإنشاء دائرة الأحوال الشخصية الجعفرية. ولكن هذا الاقتراح بقانون - المتأخر كثيراً - حفظ في الأدراج ولم يعرض في اللجنة التشريعية! في تقديري، المفهوم الخاطئ للوحدة الوطنية والترتيب المقلوب للأولويات البرلمانية هما أبرز سببين وراء إهمال ملف إنشاء دائرة الأحوال الشخصية الجعفرية. وللتأكيد على دقة رأيي تكفيني الإشارة إلى كتلة العمل الشعبي التي كانت تعتبر أيقونة الوطنية، وكانت تدير المجلس على مدى فصول تشريعية عدة، وقادرة على تشريع أي قانون تتبناه؛ هذه الكتلة لم تتبنَ أي اقتراح بقانون للأحوال الشخصية الجعفرية، بل إنها لم تدعم الاقتراح بقانون لإنشاء دائرة الأحوال الشخصية الجعفرية الذي قدّم في 2004.وللأسف، إشكالية المفهوم الخاطئ للوحدة الوطنية لم تكن مقتصرة على كتلة العمل الشعبي، ولا مجاميع المعارضة، بل إنها شملت الحكومة ونواب الموالاة. فبعد الاقتراح بقانون الذي قدم في عام 2004، تم تقديم أربعة اقتراحات بقانونين بشأن الأحوال الشخصية الجعفرية في مجلس 2013، وهو مجلس موالاة قاطعته المعارضة، ولكن تلك الاقتراحات بقوانين حفظت أيضاً في الأدراج ولم تعرض في اللجنة التشريعية!في المجلس الحالي تم تقديم اقتراحين بقانون بشأن الأحوال الشخصية الجعفرية، وكالعادة لم يعرضا في اللجنة التشريعية في دوري الانعقاد السابقين. ولكن في دور الانعقاد الحالي، تم عرض الاقتراحين بقانون في اللجنة التشريعية - لأول مرة في تاريخ المجلس - وتمت الموافقة عليهما في تاريخ 21 نوفمبر 2018 بعد أن تم دمجهما في اقتراح واحد. ثم تم إقرار القانون في مداولتين في يوم الاثنين الماضي، وبنتيجة تصويت كاسحة في المداولتين!والسبب هنا أيضاً هو مفهوم الوحدة الوطنية، ولكن النسخة المعدّلة منه. فنجد أن استناد بعض النواب في معارضتهم للقانون على مبرر «أنه لا توجد دولة تسعى إلى وحدة وطنية يكون بها أكثر من قانون للأحوال الشخصية» لم يلق قبولاً في الجلسة، ولاقى الاستغراب والاستهجان خارج البرلمان.المراد أن إقرار قانون الأحوال الشخصية الجعفرية لم يكن كمعاملة رسمية في جهة حكومية بمتطلبات وإجراءات معلنة، بل كان مجرّماً وفق المفهوم الخاطئ للوحدة الوطنية، الذي كان سائداً في البرلمان إلى وقت قريب. لذلك إقراره ما كان ليتم لولا التطور الملحوظ أبان المجلس الحالي في المفاهيم الدستورية، وفي الأداء السياسي الذي أوجب الوفاء بالتعهدات من طرف الحكومة والكتل البرلمانية... «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه». abdnakhi@yahoo.com
مشاركة :