يعتمد مستقبل أمن منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير على التنافس والصراع المحموم بين نموذجين للنظام الإقليمي؛ الأول يرتكز على تعزيز منظومة الاستقرار وتمثّله السعودية التي ترى أن مصلحتها القومية تتحقق عبر دعم وترسيخ هذا النموذج، فيما تدعم إيران النموذج الثاني الذي يعزز عدم الاستقرار وحالة عدم الأمن المستديمة حيث ترى طهران أن مصلحتها القومية في ترسيخ وتوسيع نطاق هذا النموذج ليضم أكبر دول ممكنة في الإقليم. ويحدد تقرير خاص صدر حديثا عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، أعده الباحث عبدالمجيد سعود منقره بعنوان “صراع النماذج في الشرق الأوسط: المملكة العربية السعودية وإيران”، الفارق الرئيس بين النموذجين في مركزية السلطة وقوة تحكّمها وسيطرتها على الأراضي والموارد الخاضعة لها. تدعم السعودية النموذج الأول. يسعى هذا النموذج إلى ترسيخ نظام إقليمي يعتمد على دول قومية ذات سيادة فوق أراضيها، وتتمتع حكوماتها بسلطة مركزية قوية أيا كان نظام الحكم فيها ديمقراطيا أو أوتوقراطيا ملكيا أو جمهوريا. بينما تتبنّى إيران النموذج الثاني، وتتصور نظاما إقليميا هجينا يتكون من دول ضعيفة السيادة على أراضيها، مرتبطة بمجموعات تحت الدولة تقوم بدور الدولة في توازن القوى الإقليمي، وسلطة الحكم المركزية فيها هشة. تنتمي السياسة الخارجية السعودية إلى النموذج الأول للنظام الإقليمي مدفوعة بتصورات النخبة السياسية لمفهوم الدولة القومية والاستقرار والتي تشكّلت منذ تأسيس الدولة السعودية، وهذا الاتجاه المحافظ يغرس في السياسة السعودية الخارجية انعدام ثقة عميق، وتعارض مصالح مع الفاعلين والمجموعات من غير الدول. كما أن الدعم السعودي الثابت لنموذج نظام إقليمي يعتمد على مركزية الدولة القومية يتشكل أيضا لاعتبارات بنيوية، حيث أن قوة الدولة القومية المركزية يدعم توازن القوى في النظام الإقليمي، وهذا من مصلحة السعودية في تعزيز نفوذها في المنطقة. ويكشف الموقف السعودي في لبنان والعراق عن الافتراضات العميقة التي تهم السياسة الخارجية للسعودية، وهي: الحفاظ على السلطات المركزية القادرة على تقييد وجود المجموعات تحت الدولة والفاعلين من غير الدولة. ففي الدولتين العراق ولبنان، خضعت المؤسسات الرسمية للدولة تحت نفوذ القوى الصديقة لإيران، وهي قوى تتألّف بشكل أساسي من عناصر شيعية، ومع ذلك دعمت السعودية رئيس الحكومة العراقي السابق حيدر العبادي وسعت إلى تحقيق علاقات متقدمة مع حكومته. وحافظت على النهج ذاته مع عادل عبدالمهدي، رغم علاقتهما القوية مع إيران، كما تعهدت بدعم مالي للجيش اللبناني بغض النظر عن حقيقة أن السنة هم جزء هامشي من مؤسسة الجيش التي يسيطر عليها الجنرالات الشيعة والمسيحيون. تحتاج مواجهة المشروع الإيراني، الذي يعتمد على إيجاد حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، بحسب التقرير الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث، إلى توازن على ثلاثة مستويات: توازن على المستوى المحلي بتعزيز وتقوية دور المجموعات المحلية التي لا تلتزم بمبدأ ولاية الفقيه أو المجموعات التي تخوض تنافسا مع المجموعات المرتبطة بالمشروع الإيراني، وتوازن إقليمي بانخراط دول المنطقة في تحالف لدفع إيران إلى التخلّي عن مشروعها التوسعي القائم على استدامة عدم الأمن في المنطقة، ودور دولي يعزز من مستويات التوازن المحلية والإقليمية. يتعزّز أمن إيران بوجود الدول الضعيفة، التي يمنح ضعفها الفرصة للجهات الفاعلة من غير الدول بالعمل، إذ تمثّل حالة الدول الفاشلة والضعيفة، والتي تتراجع فيها السلطة المركزية وتتعرّض للخطر، بيئة مناسبة لازدهار النموذج الإيراني وتوسعه. ويتضح ذلك في ضعف الدولة في لبنان والعراق وسوريا واليمن؛ والذي منح فرصة لإيران لتأسيس شبكة تحالفات إقليمية تكسر بها الحصار والعزلة وتوظفها في محاولتها تأسيس توازن قوى يحقق لها ما تريد من نفوذ وهيمنة إقليمية. وتنتمي السياسة الخارجية الإيرانية إلى هذا النموذج مدفوعة بتصوّر النخبة السياسية الذي يمزج فكرة العظمة والاستعلاء القومي والاعتقاد بأنهم نخبة سياسية تحافظ على ميراث إمبراطوريات قديمة، بفكرة أنهم شعب ودولة تعرضوا للاضطهاد والتآمر من كل القوى المحيطة بهم، وهو ما يدفعهم إلى الاستعلاء على فكرة الدولة القومية ومحاولة تجاوزها من جهة، وعدم الثقة في النظام الإقليمي الذي يعتمد على الدول القومية من جهة أخرى، لذا تبحث إيران عن حلفاء من عقائديين تدعمهم بالمال والسلاح مثل حزب الله في لبنان وبعض فصائل الحشد الشعبي في العراق. إضافة إلى أن إيران تسعى عبر هذا النموذج إلى التغلب على توازن القوى القائم والذي لا ينصف مصالحها التوسعية في المنطقة، لذا فهي تعتمد في مواجهة هذا النظام الإقليمي على فاعلين من غير الدول ومجموعات تحت الدولة وبناء تحالفات معها لتأسيس توازن لمواجهة التهديدات التي تتصور أنها قادمة من الدول المجاورة ولتوسيع هيمنتها الإقليمية. وأسهم إعطاء المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأولوية لمحاربة الجماعات الفاعلة من غير الدولة التي تنتمي إلى السنّة مع عدم الاهتمام بنظيرها التابع لإيران، في تعزيز فرص طهران في تشكيل النظام الإقليمي وفقا لمنظورها، حيث أن أمن إيران يتعزز على المدى القصير عبر إيجاد حالة من عدم الأمن في النظام الإقليمي، وعلى المدى البعيد يتعزز عبر عمليات إعادة بناء لهوية الدول الضعيفة والهشة في المنطقة لتكون في الفلك الإيراني، ومن هنا فإن مواجهة هذا تكون عبر سياسات قصيرة المدى تحد من خطر الميليشيات والجماعات من غير الدول في المنطقة، وعبر سياسات بعيدة المدى تعزز من قوة الدولة القومية وسيادتها وتجفف منبع الخطر الإيراني بعيد المدى الذي يعتمد على هشاشة الدول وضعفها، وهذا يتحقق عبر النموذج الإقليمي الذي تنحاز له السعودية. وتنتهج الولايات المتحدة خلال هذه الفترة سياسة خارجية أكثر صرامة تجاه المجموعات تحت الدولة والفاعلين من غير الدولة التابعين لإيران، وظهر ذلك من خلال القرار الأميركي مؤخرا بتصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، وهجوم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ضد قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري. وإذا تم توسيع التصنيف ليشمل الأحزاب والجماعات التابعة للحرس الثوري في المنطقة، قد يمنع إيران من الاحتفاظ بمكاسبها النسبية لفترة طويلة، وهو ما يجعل النموذج الإيراني للنظام الإقليمي أمام تحدّ حقيقي.
مشاركة :