إعادة قراءة تاريخ تطور نظريات السينما

  • 7/5/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عاش السينمائي العراقي- السوري قيس الزبيدي بين دمشق وبرلين، وهو يكتب ويؤلف الكتب، لكنه لا يمارس النقد التطبيقي على الأفلام السينمائية بل اتخذ من الدراسات النظرية مجالا لأبحاثه وكتبه التي وصلني منها مؤخرا كتابان جديدان هما “دراسات في بنية الوسيط السينمائي” و”الفيلم التسجيلي: واقعية بلا ضفاف”. ويميل الزبيدي في دراساته إلى مدرسة السينما الروسية كما تجلت في أبحاث بودوفكين وأيزنشتاين، لكنه استفاد أيضا في دراساته مما أنجزه الباحثون الألمان. ويمكن القول إن الزبيدي يجمع في منهجه بين النقد الجمالي والنقد الأيديولوجي، مع ميل للطابع التعليمي. بين أيزنشتاين وبازان في جميع كتاباته ينحاز قيس الزبيدي تلقائيا إلى المونتاج الذي يعتبره عصب الفيلم، وأن وظيفته تتجاوز ربط اللقطات والمشاهد وتحقيق سلاسة الانتقال في ما بينها، إلى خلق إيقاع خالص من الصور، من الحركة المادية داخل الصور وبين الصور، ويميل كثيرا إلى ما يسمى “السينما الخالصة” التي تعتمد على العلاقة البصرية الخاصة بين الصوت والصورة، أي أن الزبيدي في حقيقة الأمر يعتبر تلميذا مخلصا لمدرسة أيزنشتاين التي تعلي كثيرا من شأن المونتاج قبل أن يأتي أندريه بازان ليطرح نظريته المضادة التي تعتمد على “الميزونسين”.وفي كتابه الجديد “دراسات في بنية الوسيط السينمائي”، يتوقف الزبيدي كثيرا أمام المصطلح الذي يسميه بالعربية “ميزان سين” ويشرح لنا أولا أنه جاء من المسرح، أي الخطة الحركية على خشبة المسرح (يقصد حركة الممثلين على المنصة) ويقول إن غريفيث الأميركي كان أول من طوّره وقام بتغيير زمنه المسرحي إلى زمنه الفيلمي الفني للمشهد، فلم يعد زمن الأحداث في الفيلم يتطابق مع زمن وقوعها في الواقع. إلّا أن الزبيدي سرعان ما يعود لتذكيرنا بما أضافه أيزنشتاين الذي أطلق عليه مصطلحا جديدا هو ميزان كادر mise-en-cadre الذي يقول إنهم يسمونه اليوم ميزان صورة mise-en-image، أي أسلوب نظام مشاهد تتألف من لقطات مختلفة تتقابل خطيا داخل مشهد واحد كما تتعاقب المشاهد مشهدا تلو مشهد. ويسرد الزبيدي الكثير من الأفكار النظرية التي ترتبط بفكرة الميزونسين، سواء عند أيزنشتاين أو بودوفكين أو يوتكفيتش أو ميخائيل روم أو غيرهم. وعندما يصل إلى بازان الفرنسي يعرض فكرته التي يلخصها في تركيز الاهتمام على “عمق المجال”، ويطلق عليه “عمق الميدان”، والمقصود عمق مجال الصورة ومحتوياتها ما بين الكاميرا إلى أعمق نقطة في الكادر، وهو ما اعتبره بازان الأكثر تأثيرا في الإيحاء بواقعية الصورة أي الفيلم. ويقول قيس الزبيدي أيضا إن بازان اعتبر أن هناك واقعا وحيدا في السينما لا يمكن تجاهله هو “واقع المكان”. وعلى هذا فإن شكل الفيلم يرتبط ارتباطا وثيقا بعلاقات مكانية، فالمكان هو الذي “يمنح مصداقية للأحداث ويوهم بواقعيتها”. ما لفت نظري هنا أن الزبيدي يكتفي بعرض وجهات النظر المختلفة ويقصد بالطبع إفادة القارئ ودفعه إلى البحث، ولكني كنت أفضل، كوني من المؤمنين بدور النقد، أن يقدم أيضا “نقدا” لنظرية بازان التي تقلل كثيرا من شأن المونتاج، بينما الزبيدي منحاز من البداية إلى نظرية المونتاج حيث يعتبره أكثر العناصر فعالية في تأكيد استقلالية وتميز فن الفيلم عن غيره من الفنون، وخاصة أن الزبيدي نفسه مارس العمل في المونتاج ومنح عشرات الأفلام شكلها النهائي وإيقاعاتها المميزة على طاولة المونتاج. اللغة السينمائيةمن الفصول التي استرعت اهتمامي الفصل المخصص لمناقشة مصطلح “اللغة السينمائية”، وهو موضوع سبق أن تناوله قيس الزبيدي في مقال نشر قبل فترة في “موقع عين على السينما”، وهو يمد هذا الموضوع على استقامته هنا ويناقشه تفصيلا ويفند فكرة أن هناك لغة للسينما تشبه لغة الكلام طبقا لما جاء في كتابات عديدة للباحثين والسينمائيين الغربيين، أو حتى في النقد العربي. وينحاز الزبيدي إلى من يرفضون هذه المشابهة أو المقاربة تماما ويعتبرون أنه إذا كانت اللغة لها نظامها اللغوي الذي يقوم على إحلال الدالّ محل المدلول فالصور (السينمائية) “ليس لها نظام لغوي وإن كانت لها علاقات أيقونية مباشرة مع ما تدلّ عليه”. المشكلة هنا أن الزبيدي يغالي كثيرا في تفسير تعبير (ولا أقول مصطلح) “اللغة السينمائية” الذي نستخدمه أحيانا في لغة النقد، ليس بالمفهوم التركيبي المعقد الذي يفنده الزبيدي في كتابه، بل بمفهوم أقرب إلى “المجاز” فقط أو التشابه الظاهري من دون أن يكون المقصود تحديدا اعتبار اللقطة معادلا للكلمة، والمشهد معادلا للجملة، إلخ. فهذه المفاهيم الآلية المبسطة قد عفا عليها الدهر الآن بعد تقدم الدراسات السينمائية والسميائية كما يوضح الزبيدي نفسه. إلّا أن المشكلة أن الزبيدي في الوقت نفسه، يقرّ على نحو ما، بأن “ليس هناك من يعارض اعتبار الصور السينمائية مثل الكلمات، طبيعتها كعلامات، التعريف بشيء آخر أو بتعبير أفضل، إحلال شيء آخر بدله”. وهو ما يربك الموضوع كله ويردّنا إلى ما سبق أن ذكرته قبل قليل من أن استخدام كلمة “لغة” هو استخدام مجازي، ولكن في سياق آخر مختلف، فالفيلم ليس من الممكن اعتباره ترجمة بالصورة للغة منطوقة لأننا في هذه الحالة سنتساءل: أي لغة؟ هل هي اللغة الإنكليزية أم الروسية أم الفرنسية أم اليابانية؟ أيزنشتاين، مثلا، كان يرى أن اللغة اليابانية هي لغة “بصرية”، وقد أراد تطبيق هذا في السينما ولم ينجح. وكان لدينا في النقد العربي من اعتبر خضوع الفيلم العربي أو المصري تحديدا، للأسلوب “الغربي” في التصوير أي اعتماد منهج تحريك الكاميرا من اليسار إلى اليمين، يفقد الفيلم خصوصيته وهويته، وهو ما دفعني في السابق إلى التساؤل الجاد: وهل إذا حركنا الكاميرا من اليمين إلى اليسار، يكتسب الفيلم العربي هويته؟ قيس الزبيدي يميل كثيرا إلى ما يسمى "السينما الخالصة" التي تعتمد على العلاقة البصرية الخاصة بين الصوت والصورة وهل يجب أن يلتزم اليابانيون بالتالي بتحريك الكاميرا من أعلى إلى أسفل؟ الحديث عن “نظرية السينما” يظل حديثا عموميا، لأنه لا توجد نظرية واحدة للسينما بل هناك “نظريات” كثيرة، تكشف عن جوانب مختلفة في تفسير العلاقة بين الصورة والمادة والواقع والمتفرج أيضا في استقباله لها. ولا شك أن الدراسات اللسانية قد أفادت البحث في هذا المجال كما سبق أن أفادته الدراسات السيكولوجية، وليس من الممكن الركون إلى منهج واحد في التعامل مع الفيلم بالنقد والتحليل وتفسيره وتقريبه من المشاهد، وأظن أن هذا هو الهدف “النهائي” الذي يرمي إليه أولا وأخيرا، البحث في جماليات السينما ونظرياتها. كتاب قيس الزبيدي كنز نظري دون شك، لكونه يطرح الكثير من الأفكار التي تستحق بدورها أن تقام حولها الندوات لمناقشتها في سياق النقد بهدف “غربلة” الكثير من المفاهيم السائدة العتيقة، وفض الاشتباك مع النظريات الغربية المتشابهة التي بدأت تظهر منذ الستينات، وربما تكون رغم مساهماتها المشهودة، قد أربكت أيضا التعامل النظري مع “الوسيط السينمائي”.

مشاركة :