ذكر (جاكوبسون) ستة عناصر للتواصل اللغوي، هي: السياق، والمتكلم، والمخاطب، والاتصال، والشيفرة، والمُرسلَة، وكل عنصر منها يختصُّ بوظيفة معيّنة. فوظيفةُ عنصر (السياق) هي: إطلاق المعلومة، أو لنَقُل: وظيفته (الإفادة)، وقد ذُكِرَ مصطلح (الإفادة) في البلاغة العربية في موضوع (فائدة الخبر) و(لازم الفائدة) لكنَّ البلاغة العربية ربطت هذه الإفادة بالموقف الكلامي وخاصةً بالمخاطب، وفي نظري أنّ مصطلح (المخاطب) يقتضي المباشرة أو أن يكون المخاطب شخصًا معروفًا يتوجه له الكلام. أما عند (جاكوبسون) فالفائدة عامة لا تتوجه لمخاطب مقصود، وكأنها إعلان عن شيء معين، فإذا قرأتَ لوحةً أو ورقةً إرشادية -مثلًا- فيها جملة: (نصائحٌ مهمّة) فإنك تعلم أنها جملة لم يُقصد بها مخاطب معيّن لكنها عامّة لكل من يقرأها، ولا أستطيع - من جهة أخرى - وضع القارئ للجملة في خانةِ المتلقي؛ لأنّ التلقي لا يخلو من قصد المتكلم عند إنشاء العبارة. ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن أن تتضح من خلالها وظيفة المرجعية في السياق قولنا: (العلم نافع)، (بداية الدراسة)، (الكواكب السيّارة)، (أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أنّ محمدًا رسول الله). والوظيفة الثانية هي وظيفة عنصر (المتكلم) أو (المُرسِل) وهي: التعبير عن الأحاسيس والمواقف، وهذا يذكرني بالأساليب الإنشائيّة غير الطلبية التي يكون في الكلام فيها من أجل لفتِ الانتباه، أو تأكيدِ الموقف من الشيء. ويأتي لفتُ الانتباه في أسلوب التمني بوضوح أكثر؛ لأنّ المتكلم عندما يقول: (ليت الشبابَ يعودُ)، أو: ليتَ الذي فَلَق النّوى جَعلَ الحَصى لِخِفافِهِنّ مَفَاصِلي وعِظَامِي فالتمني إنشاء لكنّ صاحبَه لا يطلبُ شيئاً فيه بل يحاول لفت الانتباه إلى مشاعره وأحاسيسه حول الموضوع الذي وردت على نمطه العبارة. وكذلك أسلوب التعجّب مثل: (ما أشد ضياء القمر!) (ما أجمل النخل!) فالمتكلم يريد إثارة الانتباه لأحاسيسه ومشاعره حول ما يجد وما يرى. والوظيفة الثالثة هي وظيفة عنصر (المخاطب) التي تأتي للتأثير في السلوك، ومن ذلك إذا قلتَ: (انتظر حتى يأتي الموظّف). أو: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل أو قول: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال وهنا تكون الرسالة ذات نمط ينزعُ إلى جهةٍ من سلوكيات المخاطب ويحاول تغييرها أو التأثير في تلك السلوكيات، وبذلك تصير الوظيفة اللغوية للرسالة وظيفةً تحمل نمطًا نزوعيًا إلى أمرٍ يريد المتكلم من المخاطب تغيير سلوكياته على ما تقتضيه الرسالة. ونجد وظيفة عنصر (الاتصال) وهي الوظيفة الرابعة تهدف لإقامة العلاقات الاجتماعية، بمعنى أنها تكون الخطوة الأولى لبداية تكوين موقف لغوي مع الآخرين. وتأتي إقامة العلاقات الاجتماعية عبر قناة اتصال لغوية بإثارة الانتباه نحو الرسالة، وهنا أتذكّر كثيرًا من أدوات الاستفتاح وكذلك (هاء التنبيه) في أسماء الإشارة، ونصيحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن يريد حاجة أن يتقدّم حاجته ببعض الأبيات، والقضية النقدية الكبرى حول افتتاح القصيدة الجاهلية بالنسيب. وليست الوظائف اللغوية متمايزة عن بعضها بحيث لا يجري بينها تداخل، فقناة الاتصال تضم إلى جانب إقامة العلاقات الاجتماعية إثارة الانتباه بطريقة تتناسب مع ضوابط العلاقات الاجتماعية المتفق عليها بين الطرفين. ويظهر من جهة أخرى أنّ عنصر الاتصال قد يكون شيئاً مرافقًا للرسالة اللغوية كأن يقام احتفال كبير يلقي فيه شاعرٌ قصيدةً مثلاً، ويذكر أحد الباحثين أنّ هذا العنصر يستهدف المرسلة الكلامية لهدفين: (١) تثبيت الاتصال وتأمين استمراره بين المرسل والمرسل إليه. (٢) بيان قدرة المرسل إليه على استيعاب الرسالة. والهدف الثاني يعتني بالمرسل إليه؛ لأنّ أي عملية في أي موقف لغوي لا تقتضي مواصفات خاصة بالمرسل إليه بل قد يكون المرسل إليه (طفلًا) وحينئذ تجمع المرسلة أمرين: لغوي وغير لغوي. وغير اللغوي هو الذي يوفّر مع الطفل ممرًّا آمنًا لتثبيت الاتصال واستمراره فالطفل أحيانًا لا يفهم المُرسَلَة إلا إذا رافقها بعض الحركات أو الصور التي تساعده على الإدراك. ومن الأشياء الجميلة قول الإمام للمأمومين عند إقامة الصلاة (استووا، أقيموا صفوفكم) فهذه عبارة وظيفتها اتصالية أي: إثارة الانتباه عند المأمومين للحصول على تركيز تام وتناسق يماثل التناسق المطلوب في المواقف الاجتماعية، وهذا يشعرنا بأنّ الصلاة ليست حركات جوفاء بل هي اتصال وصلة بين العبد وربه، وهي موقفٌ لغوي بين العبد وربِّه، وأتذكّر هنا حديث (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال: الحمدلله رب العالمين. حمدني عبدي...) أو كما ورد. إنَّ هذا العنصر لو ذهبنا نتتبع مواطنه في شريعتنا لازددنا يقينًا بأنّنا نتصل بإله يسمعنا ويبصر مواقعنا ويعلم ما نسرُّ في أنفسنا، ولو تتبّعنا مواقع هذه الوظيفة في أدبنا لوقفنا على أشكال أدبية وعبارات اتصالية تثير الانتباه، وتقيم العلاقة بين الطرفين، وتؤمّن عملية الاتصال وأتذكّر هنا عبارة (أما بعد) في الخطابات الوظيفية وهي تشعرنا بأهمية (تهذيب النفس) عند إلقاء الكلام وقبل إلقائه. وخامس الوظائف وظيفة عنصر (الشيفرة) وهي: طبيعة التواصل التي يُعبَّر عنها بقولهم: (ما وراء اللغة) وتعني تلك الشيفرة التي تساعد على إدراك مدارات الكلمات في منطقةٍ تقع خلف اللغة وللتمثيل على ذلك طرح بعضهم (علم المنطق) مثالاً على (الشيفرة) ليس بوصفه موطن الشيفرات بل لأنه يدرس اللغة من أجل إدراك منطلقات الكلام، ولذلك نجد في (المنطق) الحديث عن التصورات والتصديقات وغيرها، وهي قضايا تعالج ما وراء اللغة لا اللغة ذاتها. ويمكن أن نأخذ على ذلك أمثلةً أخرى ككلمة (رواية) عندما نجدها في إحدى زوايا الغلاف عندما نشتري كتاباً يحمل عنوان (شرفات بحر الشمال) لأن العنوان لا يعطينا أيّ معلومة عن طبيعة ما خلفه لكنّ كلمة (رواية) المكتوبة تحته تصف طبيعة اللغة وهو الأمر الذي يحدد الصنف ويصف طبيعة التواصل بيننا وبين (شرفات بحر الشمال). وأتذكّر هنا استعمالنا لحرف التأنيث (التاء) عندما نقول: (كتبتْ وعدُ الدرس) فالتاء أيقظت فينا أنّ هذه الجملة في خطاب الأنثى ولذلك هي بمثابة شيفرة لغوية توضع لتحديد جنس الفاعل، ويفهم منها أنّ الأسماء لا تحدد الأجناس (ذكر وأنثى) في بعض المواقف. وتأتي الوظيفة السادسة وهي وظيفة عنصر (المرسلة)، وتهدف إلى إبراز سمات النص، وعند جاكوبسون نجد أن كل (مُرسلة) لا بد أن تقيم علاقة مع ذاتها من خلال إبراز سماتها وهو ما يتحدث عنه بالوظيفة الشعرية للمرسلة؛ فإذا قلتَ: (صلينا صلاة الفجر قبل انفجار الضياء) فإنّ الوظيفة الشعرية ظاهرةٌ في العبارة، وربما ذهب بعض القراء إلى قولي: (انفجار الضياء) وهذا صحيح لكنه ليس التعبير الوحيد الذي أبرز السمة الشعرية للجملة، بل لو تأملنا قبلها (صلينا صلاة) فسيتبين أنّ التنسيق البديعي برز فيها من خلال الجناس. ويعجبني في قول جاكوبسون أنّ كلّ رسالة لفظية تحمل الوظيفة الشعرية، والمستقر في أنفسنا أن الشعر عَلَمُ الجمال في اللغة الإنسانية، وأحد أكثر وسائل الإنسان التي يتأنّق فيها حتى في أسوأ الظروف؛ لأنّ الروح الإنسانية مهذّبةٌ تهذيبًا عظيمًا، وتميل إلى التعبير عن ذاتها بأناقة وجمال، وأظنني لو قلتُ بأنّ الشعر (فنٌّ قولي مصدره الروح)؛ نظرًا لأناقته وجماله ربما قاربتُ شيئاً مهمًا جدًّا في علاقة الإنسان بالشعر. وتعد الوظائف المتعلقة بالسياق والمتكلم والمخاطب من أهم الوظائف المساعدة على إدراك الضمائر والتعامل مع حوار الشخصيات، وهو أمر يساعد على إيضاح مسار المرسلة بين الطرفين، وإدراك السياق الذي وضعه الطرفان لهذه المرسلة. ويذكر بعض الباحثين أنّ الضمير في الوظيفة التعبيرية هو (أنا)، بينما الضمير في الوظيفة التأثيرية هو (أنت)، والضمير في الوظيفة المرجعية هو (هو) بمعنى: - التعبيرية يكون الخطاب فيها في الزمن الحاضر. - التأثيرية ويتجه فيها الخطاب إلى المقصود. - المرجعيّة وتركّز على المستهدف دون تحديد لموقعه أو هيئته أو وظيفته. وأقصد بهذا أنّ الوظيفة التعبيرية يكون الخطاب فيها حيًّا كأن المتكلم حاضرٌ يتكلم معنا، وبالتأثيرية أننا نكون جمهورًا يتابع الخطاب، فنحن نراقب المرسلة ونراقب الطرف المخاطب بها لنشاهد ما يحصل أثناء تلقيه الرسالة، أو نسأل: ما الذي حدث له، ومن المواطن الخفية لذلك (الحوار) الذي يقدر فيه سؤال بين المرسلتين بحيث نقدر سؤالًا فحواه (ماذا قال هذا الطرف؟) وهو كثير في (قال...). وأقصد بالمرجعية أننا نهتم بفحوى الرسالة؛ لأنّ هدفها نقل المعلومة دون تخصيصها بطرف ولذلك عندما نقرأ تقريرًا أو ورقة إرشادات فإنه لا يظهر لدينا (المتكلم) و (المخاطب) بل نركز على المرسلة وهذا هو المستهدف في كل وظيفة مرجعية غايتها نقل المعلومة. ومن الأمثلة اللطيفة على الوظيفة المرجعية (المعاجم) التي تهتم بنقل المعلومة دون قصد لمعين أو إبراز لحضور، وربما طغت وظيفة على أخرى فتكون المرسلة تحمل وظيفة تعبيرية هي المسيطرة على غيرها من الوظائف الأخرى. (*) جامعة الحدود الشمالية.
مشاركة :