الصين قوة عظمى صاعدة قادرة على ملء الفراغ الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي الذي خلفته واشنطن الصين تعهدت بإنفاق أكثر من 23 مليار دولار في مشروعات إنمائية في الشرق الأوسط الاستثمارات الصينية توفر لدول الخليج مصدرًا جيدًا للتمويل والتنمية لاستراتيجياتها من التنويع الاقتصادي استمرارًا لإسهامات «جوناثان فولتون» - من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة زايد في أبو ظبي- البحثية، والتي هدفت إلى دراسة تطور ونمو العلاقات الصينية الخليجية خلال العقدين الأخيرين؛ فقد أعد دراسة صدرت عن «المجلس الأطلسي» في 19 يونيو بعنوان: «دور الصين المتغير في الشرق الأوسط»، تضمنت تحليلاً شاملاً حول أهمية التنين الصيني للمنطقة؛ بعد أن طور نفسه كشريك اقتصادي له قوة اقتصادية كبرى نتيجة تركيزه على الاستقرار الداخلي، ودور مبادرة «الحزام والطريق» في قيادة هذا التغير. وتبرز تقارير «مؤسسة راند للأبحاث»، و«وزارة الدفاع الأمريكية»، وغيرهما أن الجانب الاقتصادي يحتل المكانة الأولى لاهتمام الصين بالشرق الأوسط، والتي استفادت كثيرًا من الدور الأمريكي الضامن لأمن هذه المنطقة، حيث وفر لها مكانًا آمنًا تحصل منه على احتياجاتها من الطاقة. لكن مع تزايد الاكتفاء الذاتي الأمريكي من الطاقة، وثقل الأعباء المالية التي تتحملها في النهوض بأمن المنطقة انسحبت منها، ما جعل الصين تهتم أكثر بأن تقوم بنفسها بتأمين حصولها على الطاقة. وهناك بعد آخر لا يقل أهمية، وهو إعادة التوازن في سياسات الصين الأمنية والاقتصادية الداخلية والخارجية، التي أخذت تتجه إلى وسط وغرب الصين؛ لإمكانية تحقيق مشروعها القرني «الحزام والطريق». و«الحزام والطريق» هو مشروع اقتصادي كبير «يتكون من طريق بري يمر بمنطقة أوراسيا وطريق الحرير البحري عبر منطقة المحيط الهندي»، ويتألف من «سلسلة من مشاريع البنية التحتية المُصممة لربط الأسواق من بحر الصين الشرقي إلى البحر المتوسط». والغرض منه توفير فرص استثمارية كبيرة للصين في الدول النامية، والأسواق غير المُستغلة، وكذلك الطرق التي يتم من خلالها تيسير التجارة المتنامية عبر القارات. وباعتباره النقطة الوسطى بين آسيا وأوروبا، سيكون الشرق الأوسط، بمثابة عنصر رئيسي في هذه المبادرة. ويتضح هذا في توقيع الصين لصفقات شراكة استراتيجية مع 12 دولة في المنطقة منذ عام 2010. بما في ذلك مشروعات إنمائية ضخمة بالجزائر في شمال إفريقيا وحتى تركيا وصولاً إلى الأردن في بلاد الشام والكويت في الخليج العربي. وتم تيسير هذا التعاون من خلال إنشاء هيئتين رئيسيتين للتنمية الإقليمية؛ هما «منتدى التعاون الصيني العربي»، و«الحوار الاستراتيجي بين الصين ومجلس التعاون الخليجي». وقام ذلك بتشجيع الدول العربية للحصول على تعهدات صينية؛ لتطوير القطاعات الصناعية الرئيسية. وكانت ثمار هذه الجهود ذات أهمية كبيرة للمنطقة. ففي الدورة الثامنة لاجتماع «منتدى التعاون الصيني العربي» عام 2018. تعهدت الحكومة الصينية وعدد من الشركات بمبالغ كبيرة لمشروعات إنمائية في الشرق الأوسط، شملت قروضا ومساعدات واستثمارات تُقدر بأكثر من 23 مليار دولار، من بينها؛ 20 مليار دولار في شكل قروض للدول التي تحتاج إلى إعادة إعمار باليمن وسوريا ولبنان، (خُصص منها حوالي150 مليون دولار لدعم حالة الاستقرار الاجتماعي، و90 مليون دولار ضمن المساعدات الإنسانية بتلك الدول)، فضلا عن قروض خاصة تُقدر بـ 3 مليارات دولار لتحسين أداء وجودة قطاعات مالية لبعض دول المنطقة. وتنظر الصين للشرق الأوسط كوسيلة يُمكن من خلالها ممارسة قوة عسكرية وسياسية وثقافية على الصعيد العالمي. يقول «فولتون»: بينما يشدد القادة الصينيون على أن المبادرة هي مبادرة محايدة سياسيا، ومفتوحة أمام الجميع، فإنها تضع الصين في مركز أوراسيا ومنطقة المحيط الهندي- والتي تمثل مجتمعة، أكثر من نصف سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، «وتجعل هذه المركزية الصين لاعبًا استراتيجيا رئيسيا في القضايا السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية». وهناك سبب ثالث يتعلق بالاستقرار الداخلي بالصين ذاتها ومحيطها القريب، آسيا الوسطى، حيث تتطلع الصين إلى التعاون مع دول الشرق الأوسط في منع انتشار تيارات التطرف الديني إلى آسيا الوسطى وإلى المناطق ذات الأقليات الإسلامية. كما أن هناك سببا رابعا، يتعلق باستراتيجية جغرافيتها، ويؤكد حضورها العالمي كقوة ليس فقط إقليمية ولكن دولية، حيث تحتاج الصين إلى تأمين مرور تجارتها عبر البحار والممرات المائية في المنطقة. وغالبا ما يمثل الدور الصيني المتغير في الشرق الأوسط، مصدر قلق لصناع السياسة في الولايات المتحدة، ولهذا نجد أن وثيقة الدفاع الوطني للولايات المتحدة، التي أصدرها «جيم ماتس» وزير الدفاع الأمريكي، في يناير 2018 قد شددت على أن المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشغل الشاغل للأمن القومي لواشنطن، ولكن الذي يثير القلق هو الصين التي يسند حضورها في الشرق الأوسط اقتصادها المتنامي بقوة؛ لتغذية طموحها الاقتصادي بطاقة واستثمار وفرص عمل؛ ولهذا نجدها ترسل قطعا بحرية لحماية تجارتها في ممرات هذه التجارة. وكما يلخص «فولتون»، فقد عملت الصين في السنوات الأخيرة على تعزيز مكانتها ونفوذها في المنطقة ذات الأهمية الجغرافية الاستراتيجية الرئيسية، عبر المشاركة في القضايا البارزة مثل، المفاوضات «النووية الإيرانية»، و«الإسرائيلية الفلسطينية»، كما تهتم بإيفاد مبعوثين في قضايا الشرق الأوسط الساخنة، كـ«القضية السورية»، وسعت لملء الفراغ الذي يخلفه الانسحاب الأمريكي. ومن الواضح أنه، انطلاقًا من تحقيق أغراض الصين الاستراتيجية والاقتصادية على حد سواء، قامت مؤخرًا بتكثيف جهودها؛ لتعزيز مكانتها كلاعب خارجي مهم في الشرق الأوسط. وعلى عكس الجهود السابقة التي بذلتها القوى العظمى الأخرى لتعزيز نفوذها في المنطقة، مثل؛ بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، قدمت الصين نفسها دولة نامية من العالم الثالث ليس لديها ماضٍ إمبريالي أو طموحات هيمنة. ولعل الاقتصاد وحده هو ما يفسر هذه الظاهرة، فلا شك أنها تقدم بالفعل فرصًا كبيرة للدول لتعزيز اقتصاداتها، بداية من زيادة التدفقات السياحية وجعل هذه الدول سوقًا ضخما لوارداتها الرخيصة إلى استعدادها للقيام باستثمارات ضخمة. وبالنسبة إلى دول الخليج من المرجح أن توفر الاستثمارات الصينية مصدرًا جيدًا للتمويل والتنمية لاستراتيجياتها من التنويع الاقتصادي. ويؤكد «فولتون»، أن ما يجعل نهضة الصين فريدة من نوعها هي المزايا والأصول الاستراتيجية التي يمكن أن توفرها لدول الشرق الأوسط. ففي المقام الأول، يمكن أن تحل الصين محل الولايات المتحدة بشكل متزايد كضامن للأمن الإقليمي. وقد لقي هذا النهج الاستراتيجي للصين تجاه المنطقة دعمًا لكونه معنيًّا بتجنب المشاركة في شؤون السياسة الداخلية للدول المتحالفة معها. فالولايات المتحدة، غالبًا ما تستعدي حلفاءها الإقليميين من خلال محاولة التدخل في سياساتهم الداخلية، مثل التمسك بمزاعم حماية حقوق الإنسان والديمقراطية. وفي الوقت الحاضر، يبدو، أنه من غير المحتمل أن تتبنى الصين، مثل هذه الممارسات والسلوكيات الأمريكية. على العموم، ومن خلال فحص العوامل والمبررات الدافعة وراء تكثيف هذه العلاقات، نجح «فولتون» في إثبات أن دور الصين المتغير، في الشرق الأوسط، يتسم بأهمية متزايدة من كيان اقتصادي إلى قوة لا يُستهان بها دبلوماسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا. وباتت الصين الآن قوة عظمى صاعدة قادرة على ملء الفراغ الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، الذي خلفته واشنطن. وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يتحقق بعد، إلا أن هناك فرصًا واضحة لتصبح بكين القوة الخارجية البارزة في المنطقة خلال السنوات القادمة.
مشاركة :