الأصولية اليهودية الصهيونية التي تستحث نقيضها

  • 7/6/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كانت المخيلة الأسطورية التوراتية قد دفعت غلاة الأصوليين اليهود، قبلئذٍ، إلى حفر العشرات من الأنفاق، على أمل العثور على فتات حجر صغير، في باطن تلك الأرض، يدل على أن هيكلا يهوديا كان قائما في الواقع قبل ثلاثة آلاف سنة. ففي ذلك النزول إلى الدَرك السُفلي، الذي يتهدد الأبنية العلوية، تقمص اليهودي الصهيوني الأصولي المتطرف، سفير الولايات المتحدة، ثوب المستوطن المهووس، وهو الذي تربى في كنف الكُنس الأصولية المتشددة، دون أن تتوغل الديانة نفسها قيد أنملة في عقله وثقافته وسياقات عمله كمحام متخصص في أندية القمار، التي تحرّمها الشريعة اليهودية. فمنذ القديم، كانت مسألة التطرف اليهودي الصهيوني، لدى فريدمان، محض عاطفة يساير بها البيئة الاجتماعية والتعليمية التي نشأ فيها، وفي قلبها أبوه الذي يتقلد منصب رئيس اتحاد كُنس ولاية نيويورك. أصوليون من كل دين فالأصوليون المتطرفون، من كل دين، المتزيدون في إنكار الآخر وحقوقه وفي احتقار البشر الذين لا يعتمدون نهجهم، دجالون في حقيقة أمرهم، وليست لديهم التقوى في أي دين، وهم بثقافتهم، محبون للقتل وللإبادة وللتعدي على الكرامة الإنسانية فضلا عن الحقوق، ثم إنهم يحتقرون الاستنارة. فمثلما أدركت معظم الأوساط الثقافية في جميع الأمم، مخاطر الأصوليات المتطرفة، ومجافاتها الأخلاق والورع والرقي الإنساني، أدرك العديدون من رموز الثقافة في إسرائيل نفسها، مخاطر هذه الزمرة التي يتمثل ديفيد فريدمان دور الانتماء إليها والتحمّس لأساطيرها. بل إن العديد من الجماعات اليهودية الأميركية، ذُهلت واعترضت على تسمية فريدمان سفيرا لدى إسرائيل. ربما لأن يهوديتها الطبيعية رأت في الرجل شخصا مارقا على الدين. وليس أدل على حقيقة الكذب الديني الذي يمارسه أمثال هذا السفير، أن رفيقه في النزول إلى النفق والصراخ الضلالي بكلام الأسطورة، هو شيلدون أديلسون، المالك والرئيس التنفيذي لمجموعة “لاس فيغاس ساندز″ لنوادي القمار. وليس من حاخام يهودي، ما عدا حاخامات منظمة “ناطوري كارتا” التي تعتبر المشروع الصهيوني في فلسطين إثما مُبينا، مستعدٌ لتبرئة ضميره، والقول إن صاحب أندية القمار المحرمة، لا يصلح للتعريف بجغرافيا الديانة وتاريخها وتضاريسها. فإسرائيل، وهي دولة جباية، تحترم أمثال هؤلاء أكثر من احترامها للديانة، وهي ليست معنية بالنظر إلى أديلسون، من زاوية الاستقامة. فهي لا تراه إلا رجلا ثريا، تجاوز السادسة والثمانين من العمر، ينام على أربعين مليار دولار، وقد أسس مع زوجته جمعية للتبرع لإسرائيل، فارتفعت أسهمه عند تل أبيب، لاسيما وأن جمعيته تتبوأ المركز الأول في الولايات المتحدة والعالم، على هذا الصعيد. لعل من المفارقات، أن هذا وغيره، من عديمي الثقافة الذين يمحضون إسرائيل ولاءً أعمى، يعاندون المؤرخين والآثاريين اليهود أنفسهم. فالعديد من هؤلاء يدحض جملة وتفصيلا، الرواية التاريخية الإسرائيلية الرسمية، التي تزودها حكومة إسرائيل للمرشدين السياحيين، وبلغ هذا الدحض حد قول أستاذ التاريخ الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، شلومو ساند “إن هؤلاء، يشوّهون التاريخ من أجل إعطاء الشرعية للاحتلال الإسرائيلي، ويختلقون شروحات ملفقة للتوراة، حتى باتت كل المبررات اللاتاريخية التي يسوقونها، محض كذب وافتراء”. التاريخ وشرعية الاحتلالما نحن بصدده اليوم، كنا بصدد مثله في العديد من المرات، دون أن يعثر الذين يحفرون أسفل المواقع التاريخية في القدس، على دليل واحد يساعد على مجرد الافتراض بأن هيكلا كان قائما في الحقب القديمة الغابرة، أو قبل ثلاثة آلاف سنة. فأراضي العالم العربي فيها الكثير من الآثار القديمة، التي تدل على الحضارات الغابرة، وظهرت في البلاد العربية أكبر وأهم حضارات العصور القديمة؛ الفرعونية والآشورية، والفينيقية، والبابلية، واليونانية، والرومانية، وحضارة الأنباط، والسومريين، والأكاديين والنوبيين وغيرهم ممن سبقوا ميلاد المسيح بقرون. رفعت تلك الحضارات صروح البنيان الذي اتسع ليغطي مساحات شاسعة من الوطن العربي في شمال وشرقي أفريقيا، والهلال الخصيب، وشبه الجزيرة العربية. وعرفت مواقع المباني المدهشة التي بقيت آثارها حتى يومنا هذا. وفي الواقع لا توجد آثار حضارة، تعرضت للتدمير (كما تقول الأسطورة اليهودية عن الهيكل المزعوم على اعتبار أن الرومان قد هدموه)، لم تتبق منها أية شواهد. فالحجارة تبقى برسوماتها وهندستها. ولعل هذا هو الذي جعل سلطة الآثار الإسرائيلية، التي ليس في حوزتها حجر تستدل به على حقيقة الأسطورة، تقول إن حفر النفق الجديد يناقض الآداب المهنية لسلطة الآثار! لقد بذل الآثاريون اليهود، منذ بدء الانتداب البريطاني على فلسطين، كل ما يستطيعون، لكي يعثروا على شيء ينتمي إلى اليهودية، فلم يجدوا. بل إن قادة إسرائيل أنفسهم خصصوا أوقاتا معتبرة من حياتهم للتنقيب عن الآثار، وكان ذلك العمل يمثل وجهة ثقافية بالنسبة لهم، ثابروا عليه لإهدائه إلى حاخاماتهم ولتبرير عملية استيطان فلسطين. ولما يئسوا من ذلك، تحولوا إلى هواية جمع الآثار الرومانية والبيزنطية والإسلامية، كما فعل موشي دايان وغيره ومنهم يغئال آلون، الذي أعياه البحث، بلا جدوى، وبعد أن كان يريد طرد كل سكان غزة وإسكان اليهود فيها، وجد نفسه يتقمص شخصية رجل الحوار وقال إنه يمد يد السلام الإسرائيلي إلى الفلسطينيين، مضيفا “لقد أصبحنا هنا، وعلينا أن نتعايش، وهذا ما يجب أن يأخذ به قادة إسرائيل”. عندئذٍ طرده أصحاب الأسطورة من الحياة السياسية. لكن الأصولية المتطرفة -ومن يتقمصونها- تظل معنية بالهذيان من خارج دائرة العلم والحقيقة والثقافة والاستنارة. فديفيد فريدمان يذهب في هذيانه إلى حد القول إن النفق الجديد، تحت قرية سلوان، هو “موقع أثري للولايات المتحدة”. ويحاول إيهام وزارة الخارجية الأميركية التي ابتعثته، بأنه يؤدي خدمة للولايات المتحدة وليس للأصوليين اليهود المتطرفين. ورغم إدراكه أن الكذب يُعرف من طوله وعرضه، فقد وجد نفسه مضطرا إلى الشرح بطريقة المهرجين في المسرحيات الهزلية “تسألونني لماذا أنا هنا؟ والإجابة مهمة، خصوصًا هذا الأسبوع الذي نحتفل فيه بذكرى إعلان استقلال الولايات المتحدة، الإعلان الذي غيّر الطريقة التي نتطرق فيها إلى العلاقة بين الشعب والحكومة. حقوقنا لم يعطنا إياها الجمهوريون أو الديمقراطيّون، إنما الربّ. وكيف عرف آباؤنا ما هي الحقوق؟ الإجابة أنهم قرأوا ذلك في التناخ (الكتاب المقدّس اليهودي). ومن أين جاء التناخ؟ من أين جاءت التوراة؟ من هذا المكان. هذا المكان هو موقع أثري للولايات المتحدة، مثلما هو موقع أثري لإسرائيل. إن هذا هو سبب العلاقة المتينة والصلبة بين البلدين. نحن نريد قول الحقيقة، وأن نروي التاريخ والتناخ. وهذه هي الحقيقة، وهذه هي الطريق الوحيدة”! لم يسأله أحد، ولماذا تأخرت هذه الرؤية، وانتظرت مجيء العبقري الذي يمثله المتحدث؟ ولماذا لم يكن الرؤساء الأميركيون السابقون، ومجالس الكونغرس على مر العصور، قادرين على معرفة ما يعرفه ويُفصح عنه؟ إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونهأثناء الحركة المسرحية التي أداها فريدمان، وهو يتجشّم عناء المشاركة في عملية هدم جدار يعترض طريق النفق، كان جيسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط حاضرا. والمذكور يهودي صهيوني متطرف هو الآخر. لذا فإن حسبة الواقع، في السياسة الأميركية المسخ، يحتل فيها اليهود الأميركيون الصهيونيون المتطرفون المواقع التي يفترض أن تنطلق منها الإدارة الأميركية، بخطة سلام مزعومة. فجاريد كوشنير من هذه الشاكلة، وجيسون غرينبلات منها، والسفير الأميركي لدى إسرائيل، مربط خيلهم، فكيف يمكن أن تؤدي مثل هذه الشخصيات دور وسطاء السلام؟ ومن ذا الذي سيتقبل منها ما تطرحه؟ وقد قال الشاعر العربي المتنبي: إذا ساء فعل المرء، ساءت ظنونه. كانت الحفريات الإسرائيلية، في محاولتها إيجاد دليل أو بقايا دليل على الأرض الموعودة والهيكلين الأول والثاني، قد تركزت حول المسجد الأقصى من جهته الغربية قرب باب المغاربة. ومرت المعاول أسفل القسم الشمالي من الـمتحف الإسلامي في القدس. وظل المرشدون السياحيون يرددون ما لقنته لهم الحكومة منذ عقود، وهم يقدمون الرواية التاريخية المزورة عن مدينة القدس، التي تقول إن الملك سليمان بنى الهيكل قبل ثلاثة آلاف عام تقريبا على جبل “موريا”، ويزيدون شارحين وهم يشيرون إلى محيط الأقصى “هذا هو البناء نفسه وهذه هي الجدران التي أحاطت بكل جبل موريا ومن بينها حائط المبكى”. وعلى الرغم من خلوّ الحائط تماما من أي خدش يدل على مرور يهودي، ومن كونه منطقيا محض جدار يؤطر مستطيل الأرض التي يقع فيها المسجد الأقصى، ظلوا يقولون إن الحائط هو الجدار الذي يقع في أقصى “جبل الهيكل”، وهو جدار استنادي لدعم الجبل، “لقد حدث هذا قبل ألفي عام وبعد عدة سنوات دُمر الهيكل، بعد أن تمرد اليهود على الرومان فدمّر الرومان الهيكل وأجلوا اليهود عن القدس″. ولو كان ما يقولونه صحيحا، لابتعد بناؤو الأقصى عن مكان الركام، وباشروا البناء في مساحة أخرى، لاسيما وأن أذهانهم كانت خالية تماما من حكاية اليهود الأصوليين والصهيونية وإسرائيل! كانت الحفريات والأنفاق، التي بدأت بعد احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس، تجري على قدم وساق بحثا عن بقايا أثرية يهودية قد تشكل دليلا أو شاهدا على وجود تاريخ لليهود في القدس، وقد ركز المحتلون على البحث عن أدلة، على وجود الهيكل الأول أو الثاني، لكي يستكملوا نسج روايتهم، ويستندوا إليها للشروع في بناء الهيكل الثالث! إن هذه الوجهة، بمعايير السياسة، تشبه وجهة الأصوليين المتطرفين، من كل دين، عندما يحددون لأنفسهم هدفا يعتاشون منه وعليه، وهم يعرفون أن بلوغ غايتهم أمر محسوم سلبا. الفارق بين بعض المجموعات الأصولية الإسلامية، والأصوليين اليهود المتطرفين، أن الأولين تنوعوا بين العاجزين عن التسلح والمترددين حتى في الانخراط في المقاومة المشروعة كــ”حزب التحرير الإسلامي”، وأولئك الذين حازوا السلاح وتسللوا إلى مساحات الفراغ الأمني، وبدل أن يتوجهوا بسلاحهم إلى أعداء الأمة، حزوا رؤوس أبناء جلدتهم، وفجروا المفخخات التي تقتل عابري السبيل في أوطانهم. أما الأصوليون اليهود المتطرفون، فقد تسلحوا في معية البريطانيين، وبنوا القوة العسكرية، لممارسة شكل آخر من العدوان، ضحيته الشعب الفلسطيني. وعندما رأت بريطانيا أن الخارطة الديموغرافية الفلسطينية تضم مسلمين لن تثق في ولائهم، ومسيحيين غالبيتهم أرثوذكس تتعهدهم روسيا بالعون منذ القديم، وشرائح كاثوليكية يطمح الطليان والفرنسيون إلى ولائها، وجدت أن اليهود الذين تطوعوا في جيشها في الحرب العالمية الأولى، هم الأجدر بأن يكونوا مرتكزا لها. غير أن المقاربة الاحتياطية البريطانية الأولى كانت، في العشرينات، تميل إلى حث العرب على بناء نظام سياسي إسلامي يكون تابعا لها. فالبريطانيون اشتغلوا آنذاك على الأصوليات، وربما لا يزالون حتى الآن، هم والأميركيون، عازفين عن الاقتناع بأن التطرف يستحث أشباهه المضادة، ويذهب بالشعوب إلى حروب دينية!

مشاركة :