قبل أن أبدأ في كتابة هذا المقال، أخذتُ نفسي في جولةٍ حرة مع المنتجات الموجودة أمامي والتي استخدمها في اليوم والليلة، وبدأتُ في حصر أهم مادة صناعية أنتجتها أيدي البشر، وتدخل في محتوى وتركيب هذه المنتجات الاستهلاكية اليومية، وهي بالتحديد المواد البلاستيكية بمختلف أنواعها، سواء التي هي مصنوعة كليًا من البلاستيك، أو أن المادة البلاستيكية تدخل في مكوناتها بنسبةٍ صغيرة أو كبيرة. فمعجون الأسنان الذي أستخدمه صباحًا ومساءً يحتوي على حبيبات صغيرة جدًا من البلاستيك وتُعرف بالميكروبيدز (microbeads)، كذلك الشامبو الذي استعمله لغسل شعري فهو يحتوي أيضًا على هذه الحبيبات، إضافة إلى الأنواع المختلفة من «كريمات» وغسيل اليد والوجه والجلد والشعر فكلها يدخل الميكروبيدز في تكوينها، والمشط الذي أستعمله مراتٍ عديدة في اليوم لتمشيط شعري فهو في الغالب يكون مصنوعًا من البلاستيك، والكثير من الملابس التي أرتديها يدخل في تكوينها مواد بلاستيكية كالبولي إستر والنايلون وغيرهما، والهاتف النقال الذي لا يكاد يترك يدي فهو في الغالب مصنوع من البلاستيك، والأكياس التي أحملها معي لوضع حاجياتي عند الذهاب إلى البرادات والمحلات التجارية الأخرى فجميعها مصنوعة من البلاستيك، وعلاوة على ذلك كله فالنظارة التي ألبسها والقلم الذي أكتب به والحاسب الآلي الذي أستعمله كل يوم، جميعها مصنوعة من البلاستيك، وعندما أشتري أي منتج فإنه سيكون مغلفًا كليًا بمواد بلاستيكية رقيقة، وعندما أغسل ملابسي في الغسالة فإن هناك أليافَ القطن والبلاستيك التي تخرج مع ماء الغسيل فتذهب إلى محطات معالجة مياه المجاري ثم إلى البحر وأخيرًا إلى أجسامنا، والسيارة التي أركبها فهي مصنوعة جزئيًا من البلاستيك، والعبوة التي أشرب منها الماء فهي في معظم الحالات مصنوعة من البلاستيك. وهكذا بالنسبة الى باقي الأدوات والمعدات التي لا نستغني عنها كل يوم، فجميعها مصنوعة كليًا أو جزئيًا من البلاستيك، وجميعها يتحول بطريقةٍ أو بأخرى، بشكل مباشر أو غير، وبعد فترة قصيرة من الزمن إلى مخلفات بلاستيكية بأحجام مختلفة، بعضها يُرى بالعين المجردة، وبعضها يكون كحجم شعر الرأس، كما أن بعضها يصعب رؤيتها بأعيننا، ويُطلق عليها بالميكروبلاستيك أو النَانُو بلاستيك (micro and nanoplastic)، وأَثبتَ الواقع وأكدت التجارب الميدانية أن جميع هذه المخلفات البلاستيكية مع الوقت تأخذ طريقها إما مباشرة إلى أجسامنا عن طريق التنفس أو الأكل، وإما أنها تنتقل إلى الحيوانات البرية والبحرية ومنها تنتقل إلينا. وسأضربُ لكم بعض الأمثلة المستخلصة من الدراسات العلمية الميدانية الموثقة لأُبرهن لكم أن أجسامنا وأجسام الكائنات الحية الأخرى أصبحت المثوى الأخير لهذه المخلفات، فتحولنا إلى مقبرة جماعية تستقبل في كل ساعة هذه المخلفات البلاستيكية التي نلقيها بأيدينا في بيئتنا. فآخر دراسة منشورة لسبر غور هذه القضية هي في الخامس من يونيو من العام الجاري في المجلة الأمريكية علوم وتقنية البيئة تحت عنوان: «استهلاك الإنسان للميكروبلاستيك»، حيث أفادت بأن الإنسان بشكلٍ عام أينما كان يعيش فإنه حَرْفيًا «يأكل ويشرب ويستنشق» بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ودون أن يعلم أو يشعر بذلك ما يتراوح بين 74 ألفا إلى 121 ألفا من الجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم سنويًا، أو قرابة 250 جرامًا سنويًا. وهذا التقدير مَبْني على دراسات وأبحاث لا تُعد ولا تحصى حول وجود المخلفات البلاستيكية بأحجامها المختلفة في البر، والبحر، والجو، وفي الكائنات الفطرية الحية النباتية والحيوانية في الصحارى الجرداء القاحلة النائية، وفي البراري الثلجية الباردة البعيدة، وفي أعماق البحار السحيقة المظلمة التي لم تصلها أيدي البشر، وفي أعضاء أجسام بعض البشر. فعلى سبيل المثال اكتشف العلماء في أعمق نقطة تحت سطح البحر في خندق ماريانا (Mariana Trench) في المحيط الهادئ وعلى عمق 10927 مترًا وجود مخلفات بلاستيكية جاثمة في تربة القاع إضافة إلى مخلفات بلاستيكية دقيقة جدًا في الكائنات الحية والقشريات التي تعيش هناك. ونُشرت دراسة في 14 أبريل من العام الحالي في مجلة (Nature Geoscience) أكدت فيها نقل الرياح للمخلفات البلاستيكية الصغيرة المتطايرة إلى مناطق بعيدة ونائية ومرتفعة جدًا مثل جبال البيرين (Pyrenees) في فرنسا، حيث أفادت الدراسة عن عثور نحو 11400 قطعة بلاستيك صغيرة الحجم جدًا في المتر المربع كل شهر. كما أفادت مجموعة من الدراسات الأخرى عن وجود الميكروبلاستيك في مياه الشرب التي تصل إلى المنزل، حيث أكدت دراسة تحليلية في عام 2017 عن وجود مخلفات الألياف البلاستيكية الدقيقة في 83% من مياه الشرب التي تم جمعها من مختلف دول العالم، إضافة إلى الدراسة التي اكتَشفتْ وجود الميكروبلاستيك في براز بعض الأفراد من فنلندا وإيطاليا واليابان وهولندا وبولندا وروسيا وبريطانيا، مما يؤكد من دون أي شك أننا نأكل ونشرب ونستنشق المخلفات البلاستيكية. وهذه الظاهرة البيئية والصحية العصيبة والخطيرة التي يعاني منها المجتمع البشري اليوم، وتهدد الأمن الصحي لكل إنسان وحيوان يعيش على سطح الأرض بتداعيات لا يمكن معرفتها وتحديدها بدقة في هذه المرحلة، ستتفاقم يومًا بعد يوم وتزداد سوءًا، وبخاصة في أننا نُنتج في كل سنة مواد بلاستيكية أكثر من السنوات السابقة، وأصبحنا نعتمد كثيرًا على المواد البلاستيكية كبديل عن المواد التقليدية القديمة، ولذلك في كل سنة تزداد كمية المخلفات البلاستيكية التي تنتقل إلى كل مكونات بيئتنا حتى أصبحت الآن جزءًا رئيسًا من كل مكون بيئي أينما كان، حتى ولو كان في أعالي السماء أو في أعماق البحار، وكل هذا يترتب عليه دخول مخلفات بلاستيكية أكثر في أجسامنا مع الوقت. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :