لأكثر من خمسة وأربعين عاماً، وعبدالرحمن السليمان يحفر في عالم الفن. فالتلميذ الصغير الذي كان شغوفاً بفن الرسم في المدرسة الابتدائية، لم يحد يوماً عن انشغاله بعالم الفن التشكيلي إنتاجاً وتنظيماً للمعارض وخدمة الناشئين من الفنانين الشباب. ونضج فنه الذي راح يحصد الجوائز المحلية والعربية، ولمع اسمه في لجان التحكيم، وباتت لوحاته تباع في المزادات العالمية. فسيرة الرجل هي قبل كل شيء سيرة شغف بالفن، وسيرة نجاح كان لا بد وأن ينتهي إليه هذا الشغف. عبدالرحمن السليمان هو ابن بيوت الطين في حي الكوت بمنطقة الأحساء، وكان ينتمي إلى عالم النخيل والجبل، قبل أن ينتقل إلى المدينة الساحلية في الدمام ليؤسس مرسمه الأول، ثم الثاني فالثالث، قبل أن ينتقل إلى بيته الواقع بحي الجامعيين، حيث تنتشر الكتب أينما كان، وكذلك الصحف التي عمل بها منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وما بين الكتب واللوحات، مدخل إلى مرسم يضج بالألوان، ومكتنز باللوحات الجاهزة للمشاركة في معارض مقبلة. ذاكرة المراسم الأولى ولأن الغاية من زيارتنا كانت استكشاف مسيرة السليمان، كان مرسمه هذا مدخلاً إلى الحديث عن مرسمه الأول ونشأته الفنية. وفي هذا الصدد يقول الفنان: "كان مرسمي الأول في مدرستي (الخليج المتوسطة). فقد كان معلِّم التربية الفنية الأستاذ مساعد الغرامي يجمعني وزميلي عبدالله الجبالي مساء كل يوم لنرسم، تمهيداً لإقامة معرض المدرسة السنوي. وكنا قد تعلَّمنا منه بعض الأمور الأساسية مثل إعداد اللوحة والتعامل مع الألوان الزيتية التي وفَّرتها المدرسة. وكنا نرسم ما نريد، مثل المناظر المستوحاة من الأماكن والأدوات وبعض الجوانب الحياتية والاجتماعية. كنت أرسم ببساطة وعفوية مع بعض التوجيه، لكن أعمالنا، رغم بساطتها، وجدت صدى كبيراً على مستوى المدرسة والإدارة التعليمية وأصدقاء الحارة". وعن المرسم الثاني يقول السليمان: "كان في نادي الاتفاق الذي أطلق ورشة رسم صيفية عام 1971. وكانت الإجازة الصيفية فرصة لمزاولة هوايتي، فكنت أتردَّد على النادي يومياً، صباحاً ومساءً، إلى أن رسمت نحو 24 لوحة. وفي البداية تم عرض 18 عملاً منها في معرض مشترك، وبعد افتتاحه وتقدير مشاركتي بساعة يد ثمينة، أضيفت إليها الأعمال الأخرى لتعرض بشكل منفرد. فكان ذلك أول معرض فردي لي في مسيرتي الفنية. من نسخ الصور والتدرّب إلى التدريب ويروي السليمان نشأته الفنية باختصار، فيقول: عندما كنت في المرحلة الابتدائية بالأحساء قبل انتقالي إلى الدمام، كنت مشاركاً نشطاً في رسم وتصميم وكتابة الصحف الحائطية المدرسية في مدرسة الكوت. وكان المعلِّمون يكلفوني بالكتابة والرسم لمناسبات معينة مثل أسبوع النظافة. فكنت أنقل صوراً من كتاب "صحتك" الذي طبعته ووزعته أرامكو. وأذكر أنني نسخت تقريباً جميع رسومات وصور ذلك الكتاب عدة مرَّات. وكان تشجيع المعلِّمين لي كبيراً ومحفزاً، فكنت أكتب حكمة اليوم صباح كل يوم على سبورة في فناء المدرسة. فبشكل عام، كان نشاطي المدرسي مشجعاً للاستمرار والعطاء. ويتابع السليمان: "واصلت دراستي في معهد المعلمين، حيث كان المعلمون أيضاً حريصين على تتبع أعمالي وتوجيهي، ومن بينهم الفنان السوداني مبارك بلال الذي تواصلت معه فيما بعد، ودعم توجهي الفني وكتب تحليلاً وصفياً لأسلوبي الفني بعثه لي في رسالة خاصة بعد أكثر من 20 عاماً على تخرجي في المعهد". استمتع السليمان بتدريس التربية الفنية. فهي تخصصه ومن طبيعة اهتماماته. فيقول بشأنها: "كنت أسعى دوماً في استنهاض همم الطلبة للإنتاج الفني. كما كنت أركِّز على الموهوبين والهواة بتعليمهم جوانب أعمق كالرسم بالألوان الزيتية أو المائية. وبالتالي كان يومي بأسره فناً، سواء كان في مقر عملي أو في منزلي ومرسمي، إضافة إلى جمعية الثقافة والفنون بالدمام التي انضممت إليها منذ عام 1979 كمقرِّر لقسم الفنون التشكيلية مع رفيق الدرب الفنان الراحل علي عيسى الدوسري". المسيرة الإبداعية وتحولاتها كان معرضه الفردي الأول الذي أقامه في عام 1971 "بسيطاً" على حد تعبيره، لكنه وخلال سنوات قليلة، تجاوزه بسرعة إلى ما هو أبعد منه. وظهر ذلك في المعرض الذي نظمته له جمعية الثقافة والفنون عام 1983 في فندق "الدمام أوبروي" (الشيراتون حالياً)، ويقول الفنان عنه: تضمَّن هذا المعرض تجاربي الفنية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. وقد حضره عدد من الفنانين من مختلف مناطق المملكة، واحتفت به الصحافة المحلية، خاصة جريدة "اليوم" التي كانت مسرحاً لنقاشات بعض الفنانين والكُتَّاب والنقاد الذين تناولوا المعرض من أكثر من وجهة نظر، وكان بينهم الفنان المصري الراحل محمد عرفات والناقد الصديق أحمد سماحة والكاتب أحمد الحضري وآخرون. كان هذا المعرض انطلاقة حقيقية في مسيرتي. ومن الأعمال التي عرضت فيه عملان بيعا لاحقاً (في عام 2018) في دار المزاد العلني "سوثبيز"، ويتمثل فيهما توجهي الفني خلال تلك الفترة، وتأثري بالمدرسة التكعيبية التي حرَّرت الشكل من قيود التمثيل والمحاكاة، ومنحت الفن إمكانية التأليف والتحليل أو التركيب". وحول التحوُّلات في مسيرته الفنية واختياره التكعيب لغة تعبيرية، يقول: "شهدت مسيرتي الفنية كثيراً من التحوُّلات. فقد كانت الأعمال المبكرة التي اشتغلت فيها على المكان بسيطة، وأقرب إلى التمثيل. ولكني كنت أبحث منذ بداياتي عن عمل فني لا ينساق خلف المباشر والمكرَّر. فكنت أميل إلى خلق مشكلة فنية وأعمل على حلها. فكانت التكعيبية حلاً يوفِّر مزيداً من حرية العمل على الفكرة والتقنية. وحرَّرتني التكعيبية من قيد الفكرة والمحاكاة إلى مزيد من الانفتاح على الموضوع وتحقيقه بأبسط الصور. فقد كان التحليل يهمني أكثر في سعيي إلى إيصال فكرتي. ومع ذلك فقبول مثل هذه التيارات الفنية الحديثة محدوداً مع مجتمعات ترى الفن في القدرة على المحاكاة. كانت تحوّلاتي قائمة على استلهام المعطى المحلي، وبعثه في صورة حديثة تعبِّر عن شخصيتي وتحمل هويتي السعودية والعربية. فأقمت معرضاً في طنجة عام 1989، وفي العام التالي أقمت معرضاً كبيراً في قصر الثقافة بحي السفارات في الرياض برعاية جمعية الثقافة والفنون، وتضمن هذا الأخير أعمال خمس سنوات رسّخت فيها استلهاماتي المكانية في طقس ليلي يعبر عن سكون المدينة وجمال مكوّناتها. ثم كان معرض "حفريات الذاكرة" في جدة وغيره.. وفي كل خطوة كنت أسعى إلى بلورة مزيد من النتائج والاكتشافات الفنية. كما كنت أستثمر زياراتي لبعض الدول ووجودي بالرسم، كما في باريس وطنجة، وأصيلة التي حضرت دورات موسمها الثقافي منذ 1985، إضافة إلى المشاركة في ورش الغرافيكس والصباغة الزيتية وبعض الندوات". الجوائز المبكرة وكأيِّ فنان آخر، يعتز السليمان بالجوائز التقديرية الكثيرة التي حازها والتي انهالت عليه منذ وقت مبكر في مسيرته الاحترافية: "أول جائزة حصلت عليها كانت من أحد معارض مكتب رعاية الشباب. وبالتأكيد، كان للجوائز المبكرة مردود إيجابي يحفز ويشجِّع ويدفع الفنان إلى مزيد من الخطوات الإيجابية التي تعزِّز حضوره واستمراره. لكن الجائزة الأكبر كانت جائزة معرض الفن السعودي المعاصر في منتصف الثمانينيات، الذي وضعني على المحك مع الأساليب الفنية المتميزة على مستوى المملكة، ومعه تواصل حرصي على أسلوبي الفني وتعميق فكرته وتقنياته. وتأكد ذلك بحصولي على الجائزة الأولى في الدورتين التاليتين للمعرض نفسه. أما دولياً، فقد حزت جائزة بينالي الشارقة عام 1997 على مجموع أعمالي. وقد اختير بعضها أخيراً لإدراجه مع نص كتبته في كتاب سيطبع بمناسبة مشاركة المملكة في بينالي فينيسيا للعام الجاري 2019، وهو أحد أهم وأقدم البيناليات الدولية والمعروفة". الصحافة التشكيلية.. تقديره لها وحضوره فيها ولأن عطاءات عبدالرحمن السليمان لم تتوقَّف عن الرسم وتدريسه، بل تعدَّاه إلى الكتابة في الفن التشكيلي، كان لا بد لنا من إثارة موضوع الصحافة التشكيلية ورأيه وإسهاماته فيها، فقال: "الصحافة الفنية خدمت الفن والفنانين والساحة في المملكة، فمنذ سنوات عديدة وهي تهتم بأخبار الفن ومتابعته محلياً وعربياً وعالمياً، تستكتب وتقدِّم وتحلِّل وتستعرض الفنانين والتجارب الفنية. والواقع أن الريادة الإعلامية التشكيلية لم تزل في صحيفتين، هما "الجزيرة" و"الرياض". فللزميلين محمد المنيف وأحمد الغنام التقدير والاحترام لجهدهما الكبير. وأنا أكتب حالياً زاوية أسبوعية في الرياض، بعد أن كتبت وأشرفت على الصفحات التشكيلية في جريدة "اليوم" منذ عام 1983. كما كتبت في "الشرق الأوسط" و"الحياة" و"البيان" الإماراتية وعدد من المجلات المحلية والعربية المتخصصة. كما صدر لي أكثر من كتاب مثل "مسيرة الفن التشكيلي السعودي" عام 2000، و"الفن التشكيلي السعودي في المنطقة الشرقية" عام 2018. وقدَّمت وأعددت كتاباً تشكيلياً لمجلة "الفيصل" نشرته لمناسبة مرور 40 عاماً على صدورها. كما أن هناك كتباً أخرى في الطريق". "حراك انتظرناه طويلاً" وحول الحراك الفني في المملكة خلال سنوات الخمس الماضية، وما هو مرتقب له في المستقبل يقول السليمان: "نعلم أن الأعوام الأخيرة شهدت حراكاً فنياً انتظرناه طويلاً، فالفن التشكيلي الذي ظهر من خلال جهود الفنانين وعروضهم الفردية الخاصة تبنته ورعته فيما بعد جهتان مهمتان، أسهمتا كثيراً في دعمه وتعزيز مكانته محلياً وخارجياً، وهما جمعية الثقافة والفنون، والرئاسة العامة لرعاية الشباب التي شاركت في المناسبات العربية والدولية ورافقت بالأعمال الفنية السعودية عدداً من المناسبات والمهرجانات وبعض البيناليات الأجنبية في الهند وتركيا ومصر وغيرها". ويضيف: "إننا نستبشر خيراً بقيام وزارة الثقافة وبمعهد مسك للفنون وبمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، وبالرياض أرت الذي أعلن عنه أخيراً، وبكل المبادرات الأخرى التي ترسم مجتمعة ملامح مستقبل الفن والثقافة في المملكة". شغف لا يشيخ بعد مرور 45 سنة من العمل الفني والعطاء المتعدِّد الأوجه، يبقى الشغف بالفن عند السليمان كما كان، أو كما ولو أنه كان في بداية الطريق، الأمر الذي أدهشنا، كما ولا بد له أن يدهش كل من يتحدث إليه عن الفن التشكيلي، نسأله عن سر هذا الشغف الذي لا يشيخ، فيقول: "ما زلت أعيش الحالة الفنية نفسها التي كنت عليها. قد تختلف فترة الممارسة بناءً على مشروع يتم التحضير له كمشاركة أو معرض ما، لكنها في الواقع تتساوى من حيث الاهتمام. لقد سعيت عام 2005 في أن أفتح مرسمي أمام زملائي الفنانين باستضافتهم في أسبوعية أطلقنا عليها "الأربعائية"، أو ملتقى عبدالرحمن السليمان، وقد استضاف الملتقى عدداً من الفنانين السعوديين من مختلف مناطق ومدن المملكة والخليج العربي وعدداً من الفنانين العرب. كنا نقيم الحوارات الفنية والمناقشات ونستعرض الكتب والمطبوعات الفنية وحتى بعض الأفلام، وكان جواً فنياً حقيقياً أسعى لاستعادته حالياً بعد أن توقف لأكثر من عام". **حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية
مشاركة :