المغامرة.. مصنع الخيال

  • 7/8/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

** القاهرة: عيد عبد الحليم نشأ الأدب العالمي مرتبطاً بالأسطورة من خلال الملاحم الإغريقية والرومانية الشهيرة مثل: «الإلياذة»، و«الأوديسة»، ثم تطور بعد ذلك إلى أدب الرحلات، والذي كان يهدف إلى اكتشاف المجهول والبحث عن صيغ جمالية للتعامل مع مفردات الحياة، في «الأوديسة»، ومن بعدها «رحلات جاليفر» نجد غرائب ووحوشاً وعجائب؛ حيث تشكل كل ملحمة رحلة أدبية فريدة. ويشير محمد عبد الحافظ ناصف- رئيس المركز القومي لثقافة الطفل- إلى أن الملاحم القديمة مثل «الأوديسة»، أسهمت في تشكيل الخيال الإنساني، من خلال صورها الوثابة وحكاياتها المثيرة، وأحداثها الخيالية، التي تعتمد على إثارة الوعي واكتشاف المجهول، وارتياد آفاق فوق بشرية، على غير المألوف الإنساني.يضيف ناصف قائلاً: كتبت «الأوديسة» وما بعدها من كتب اتخذت من أدب الرحلات مثل «رحلات جاليفر» بخيال دينامي وثاب، متجدد على الدوام، فالحكاية فيها تولد حكاية أخرى، وقد نجد أن هناك تكراراً لأبطال الحكاية الواحدة في حكاية أخرى، ليؤكد ذلك أن الإنسان قادر على التحدي دائماً، وقادر على الانتصار على قوى الشر الخفية، فالصراع يدور في دوائر متعددة، وفي إطار غرائبي؛ حيث الوحوش التي تتحول إلى بشر، والبشر الذين يتحولون إلى وحوش في ثنائية تضادية مركبة.في إطار من المثيولوجيا الإغريقية القائمة على فكرة الثنائيات وفي محاولة للبقاء على هذه الأرض، في أطوارها الأولى؛ حيث تصور أحداث «الأوديسة» بشكل متخيل العصور الأولى لبشر على الأرض، من خلال كائنات ما قبل الحضارة، وما قبل وجود القيم التي تعارف عليها الناس بعد ذلك، وهي مكتوبة بلغة أدبية رائعة تتميز بحسن السبك وقوة العبارة، وتعدد الدلالات. قيم الخير ويرى د. أحمد مرسي- أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة- أن «الأوديسة» التي تطورت بعد ذلك في فنون وكتابات شعبية عالمية أخرى، كتبت وفق منظور اجتماعي يناسب الفترة التاريخية التي كتبت فيه، بحثاً عن قيم اجتماعية كان يحتاج إليها المجتمع في تلك المرحلة من التاريخ البشري، وهي تأكيد قيم الخير والإرادة الإنسانية في مواجهة المجهول.وهذا ما أشار إليه مالينوفسكي، حين قال: «إن أنشطة أفراد المجتمع لا يحددها إشباع الحاجات البيولوجية الحتمية، بل يحددها نسق من القيم يدعو إلى إشباع هذه الحاجات عند مستوى معين، وفي هذه الحالة نجد ما يبرر الحديث عن وظيفة الأنشطة فتأثيرها- أي إشباع الحاجات البيولوجية عند مستوى معين- وسيلة لقيم نسق القيم»، وبذلك كان تحليل مالينوفسكي، للثقافة مبنياً على أن كل إنجاز ثقافي لا بد أن يشير إلى إشباع حاجة جسمية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.ومن هنا كانت نظريته في الحاجات تتضمن وجود احتياجات بيولوجية أساسية وأخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بها، وتعتمد عليها وتظهر مع بداية أي نشاط ثقافي، فإن كان هناك احتياج الإنسان للتغذية، فإن الإنسان يحتاج في نفس الوقت إلى احتياجات تكنولوجية واقتصادية وقانونية وأيضاً سحرية ودينية وأخلاقية.ومن هنا يمكننا أن نقول إن وجود ملاحم مثل «الأوديسة»، كان لحاجة إنسانية ملحة لإنسان العصر القديم، ما قبل الميلاد؛ حيث كان يريد ترسيخ مبدأ العدالة وتأكيد منظومة القيم الأخلاقية، وتأكيد فكرة الوجود الإنساني على الأرض، لذا وجدناها تقوم على حكايات متوالية، تدور في إطار من الصراع ما بين قوة الوحوش الجسدية، وقوة الإنسان العقلية، عبر حكايات عجائبية مدهشة، وصراع ما بين قوى الخير وقوى الشر، والتي في الأغلب ما ينتصر فيها الخير، بالرغم من شراسة المعارك التي تدور.ويضيف د. مرسي قائلاً: مثلت «الأوديسة» وغيرها من الملاحم الأوروبية القديمة جزءاً مهماً من خصائص المعتقد الشعبي العالمي، بما فيها من مساحات واسعة من مرونة التلقي والقبول، بالرغم من غرائبية التناول في الحكي والسرد، أما من الناحية الأدبية فتمثل «الأوديسة» و«الإلياذة» وغيرهما وصولاً إلى الكتب التي تناولت الكتابات العجائبية مثل «رحلات جاليفر» قطعاً أدبية نادرة؛ حيث إن كل ملحمة تعد رحلة أدبية متميزة.ربما تختلف هذه الملاحم قليلاً عن الملاحم العربية مثل «السيرة الهلالية» و«سيرة عنترة»، وغيرهما من الملاحم المهمة، في أن الملاحم الإغريقية والرومانية واليونانية تقوم على فكرة الصراع ما بين قوى خفية وقوى ملموسة، ما بين البشر والوحوش، أما الملاحم العربية فتقوم على الصراع ما بين البشر، وإن كان يجمع بين الاثنين هدف واحد وهو الدفاع عن الوجه المأمول للحياة، وتأكيد قيم العدل والحرية والخير.موضوعية ويرى الروائي السيد نجم، أن الملاحم الغربية كالأوديسة تتميز بقوة الخيال، وهي قطعة أدبية تخص التاريخ الذي كتبت فيه والعصور القديمة، في حين أن الملاحم العربية وأدب الرحلة العربي أعمق منها، وعن ذلك يقول: أعتقد أن رحلات ابن بطوطة تفوق كل الملاحم التي كتبت قبله، وكان موضوعياً ومحللاً، فدائماً في الملاحم يكون الخيال غير موضوعي، بإضافة أحداث خارقة، الوحيد الذي مزج الخيال بالواقع هو ابن بطوطة.الغرب استفاد منه أكثر من العرب، وقام برحلاته على ثلاث جولات وبعد 23 سنة أقام في «طنجة» بلدته، ولم يعرفه أهل المكان فبدأ يعرفهم بنفسه، الخبر وصل لحاكم «طنجة» فطلبه، وقال له أين كنت؟ فحكى له، فطلب منه أن يسجل جولاته ورحلاته.كلف الحاكم وزيره ليكتب ما يمليه عليه «ابن بطوطة» فوقع الكتاب في 450 صفحة هي خلاصة الثلاث رحلات التي خاضها.ويضيف د. نجم قائلاً: الملاحم القديمة عبرت عن فترة زمنية في الذهنية الإنسانية وقتها، قبلها كان الإنسان يعيش في حالة ضياع إلى أن حدث قدر من العمران فاستطاع الإنسان أن يعبر عما يدور حوله.وكانت الملاحم الهندية قائمة على الصراع بين الآلهة والآلهة والبشر، أما الملاحم الصينية فقائمة على التصالح وعلى قدر من الرفق بالإنسان، ولذلك معروف عن المثيولوجيا الشعبية الصينية بأنها ميثولوجيا سلام.ويضيف د. نجم قائلاً: الجميل في «الأوديسة» أنها عبرت عن جملة مشاعر إنسان هذه المرحلة القديمة.التاريخ الخاص بالفكر البشري، أن تبدأ بالحياة البدائية وتخوف الإنسان من هذه الحياة، وقد سبق الفن التشكيلي هذه الملاحم، فهناك حفريات للفن التشكيلي في موزمبيق وأستراليا وإسبانيا.بعد المرحلة البصرية جاءت مرحلة الأساطير، ومن بعدها جاءت الملاحم مثل «الإلياذة» و«الأوديسة» التي كتبت قبل الميلاد بمئة عام، ضمن الملاحم الإغريقية، وتمتلئ بوحوش هائلة، وقوى أرضية وخيالية جبارة، وهناك صواعق ورعود ومن هنا جاءت فكرة «الأساطير»، بعدها ظهرت الملاحم المكتوبة بالشعر؛ حيث إن الشعر كان هو الفن الوحيد الموجود في ذلك الوقت، وعبرت الملاحم عن الوجدان وعن قدرة الإنسان على تحقيق بطولات.وأجمل ما بقي من «الأوديسة» هو فن المغامرة، المغامرة غير المحسوبة، المغامرة التي تأخذ القارئ إلى عوالم خفية، وأبعاد لامرئية؛ حيث يمتزج البشري بالميتافيزيقي، وتتحول الكائنات في لحظة واحدة من صورتها الأولى إلى صور متغيرة.حكايات «الأوديسة» تجعل القارئ دائماً يستعيد أحداثها، لأنها تضعه دائماً في خانة «التأمل» و«الاندهاش»، و«كسر الإيهام» كما يقول المسرحيون، وهذا هو جوهر الفن الحقيقي، و«الأوديسة» رائدة في هذا المجال.ويرى الناقد د. محمد السيد إسماعيل، أن الملاحم شأنها شأن كل الأشكال التراثية الموروثة، يتم توظيفها في المسرح والشعر والرواية مثل «رحلة ابن فطومة» التي كتبها نجيب محفوظ، ورحلة السندباد استلهمها عدد كبير من الشعراء مثل: صلاح عبد الصبور وخليل حاوي، كذلك استفاد منها شعراء مثل أحمد شوقي الذي أخذ منها الشكل التاريخي، ويقوم بعمل معاصر لها، يستغل التيمة ويقوم بتحديثها، وقديماً وظفها جرجي زيدان في رواياته التاريخية، وهذا يثبت أنه ليس هناك شكل أدبي يموت تماماً، حتى الحكايات الخرافية. طفولة البشرية يقول القاص د. أحمد الخميسي: جيمس جويس استلهم أحد أبطاله من «الأوديسة» في قصصه الشهيرة، المرحلة الأولى من الأدب في تاريخ البشرية المتمثل في الملاحم اليونانية «الإلياذة» و«فيرجل» و«الأوديسة» والملحمة العراقية «جلجامش» كانت بدايات الفكر البشري؛ بحيث إنها عبرت بالأدب عن التصور الفكري للعصر بمجمله والبحث عن الآلهة و عن القدرات غير المألوفة.عند اليونان كانت هناك فكرة الإله البشري إله الحرب وإله الحب، والمزج بين السماوي والأرضي، هذه الأشياء تعبر عن طفولة البشرية الفكرية في محاولاتها لاكتشاف العالم، والتي ترى أن العالم مخلوق إما من الماء أو الهواء. ويضيف د. الخميسي قائلاً: هذه كانت حدود البشر في تصورهم للعالم وقدرة الإنسان على تفسير العالم. تصوره للوحوش والغرائب مرتبط بعلاقة الإنسان بالطبيعة التي فيها بدرجة كبيرة جداً جذور الفن وأهم هذه الجذور الخيال، الخيال الذي أطلق لنفسه البراح الذي يرى الأشياء كما يشاء، بعد ذلك اختفى هذا التصور لأن العالم امتلأ بالعلم الذي بدد هذا الخيال الجامح، وارتبط بطفولة الفكر ومحاولة اجتياز كل ما هو أرضي، وهذا وجد في الأدب العربي القديم مثل «ألف ليلة وليلة»؛ حيث نجد بساط الريح والسندباد. خوف الملاحم كانت حالة من الوقوف في مواجهة الواقع المخيف بإنشاء واقع متخيل أكثر جسارة وأشد بسالة، يكون فيه الإنسان قادراً على تحدي الصعاب، في إطار من الخيال الخصب.

مشاركة :