لم تكن الجالية المسلمة في نيوزيلندا قبل أربعة أشهر سوى أقلية ضمن تركيبة مجتمع لا يعرف عنها الكثير، وظلت نظرته إليها تدور في فلك المظاهر الشكلية، كإطلاق بعض الرجال اللحى أو ارتداء السيدات للحجاب. تغيرت الأمور بعد الهجوم على مسجد النور الذي منح أئمة المساجد هناك قدرة على فتح حوار مباشر مع مسؤولي الحكومة حول مطالب المسلمين وكيفية نشر ثقافة التسامح الديني وتعزيزها، وظهرت ملامح التحول في العديد من الخطوات التي اتخذتها الأجهزة الرسمية، حتى نجحت في إيجاد صورة مغايرة. وتعهدت رئيسة وزراء نيوزيلندا غاسيندا أرديرن، السبت، بنشر “وثيقة الأخوَة الإنسانيَة” التي وقعها البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان والدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، داخل المدارس والجامعات والمعاهد التعليمية والتربوية، من أجل المساعدة على خلق أجيال جديدة تحمل الخير والسلام وتدافع عن حق المقهورين والمظلومين في كل مكان. حصلت الجالية المسلمة منذ الهجوم الإرهابي، الذي أسفر عن مصرع وإصابة العشرات من المصلين، على مكتسبات غير مسبوقة مثل الموافقة على إقامة مدارس إسلامية، والسماح برفع الأذان عبر مكبرات الصوت، وبث صلاة الجمعة في التلفزيون الرسمي للبلاد للمرة الأولى، وإطلاق حملة تضامن مع زي المرأة الإسلامي بعنوان “الحجاب من أجل الوئام”. أكد جمال فودة، إمام مسجد النور الذي شهد الهجوم لـ”العرب”، أن المسلمين اقتنصوا مكاسب غير مباشرة امتدّ صداها إلى دول مختلفة بدت أكثر تسامحا مع الجاليات الإسلامية، وبات مسجد النور مزارا لسياسيين ومشاهير من مختلف دول العالم يأتون خصيصا للتضامن مع الجالية المسلمة، وإظهار الانفتاح الكبير والرغبة في التعرف على المزيد من التفاصيل حول الدين الإسلامي. باتت وسائل الإعلام في نيوزيلندا داعمة للمسلمين بصورة ملحوظة، وتعدّى الأمر من ارتداء بعض المذيعات للحجاب أثناء قراءة نشرة الأخبار وزيارة الإعلاميين للمساجد يوم الجمعة، إلى محاربة الأفكار التي تصفهم بالتطرف، وشن هجوم على الخطاب المعتاد لليمين المتطرف في أوروبا الذي يربط الإرهاب دوما بالإسلام، ما خلق قناعات لدى المجتمع بأن “الإرهاب لا دين له”. وأوضح فودة، أن التضامن العربي والإسلامي كان له تأثير ضاغط لتحسين أوضاع المسلمين، خصوصا من دولة الإمارات العربية المتحدة التي لعبت دورا بارزا في تخطي الجالية الإسلامية بنيوزيلندا الأزمة، بتحملها تكاليف إنشاء مركز للتسامح والحوار بين الأديان وإعلانها تقديم الدعم لأي محاولة تهدف إلى نشر الثقافة الإسلامية الوسطية، وتقديم خطاب ديني يرسخ مفاهيم التعايش السلمي ونبذ العنف والتطرف والابتعاد عن الانتقام. وقام منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي تحتضنه أبوظبي، بمبادرات وزيارات مستمرة لنيوزيلندا قصد ترسيخ ثقافة التعايش والقيَم الإنسانية المشتركة بين الأديان، وتأكيد أولوية السلم باعتباره الضامن الحقيقي لسائر الحقوق، وتعزيز دور العلماء في نشر الفهم الصحيح، والمنهجية السليمة للتدين. وقال فودة إن الحادث المروع كشف عن عدم انغماس الجالية الإسلامية، التي يقدر عددها بنحو 70 ألف شخص ولديها قرابة 70 مسجدا، وحينما أراد النيوزيلنديون إظهار التعاطف ارتدى بعض الرجال الحجاب لجهلهم بأنه زي مخصص للنساء، وحتى الشباب المسلم كانت ردوده تظهر عدم التعمق والفهم الصحيح لتعاليم الدين في حواراته مع المذيعين الأجانب حول الحادث. وعبر فودة، عن اقتناعه التام بقدرة بعض الدول العربية على لعب دور أكبر في دعم الجاليات الإسلامية في الخارج، حيث زار الإمارات ومصر أخيرا والتقى بقيادات دينية وسياسية، ودارت نقاشات تمحورت حول ضرورة توعية المسلمين في الغرب بأهمية الاندماج داخل المجتمعات وتصحيح المفاهيم المغلوطة عنهم كوسيلة أساسية للتصدي لظاهرة الإسلاموفوبيا، وتصحيح صورة الإسلام. وأشار إلى أنه تم الانتهاء من عملية تجديد مسجد النور، وتم تأثيث مكتبته بعدد كبير من الكتب والمطبوعات المترجمة للغات الأجنبية وتتناول التسامح الديني مثل “مفاهيم يجب أن تصحح” و”حماية الكنائس في الإسلام”، وتركز على احترام الإسلام لمقدسات الديانات الأخرى وكفالة حرية المنتمين إليها في ممارسة شعائرهم. ولفت فودة إلى أن الأمور تغيرت في الكثير من الدول التي تشهد تصاعدا في موجات العداء ضدّ الإسلام، وتراجعت بعض وسائل الإعلام عن ترديد آراء اليمين المتطرف بقوة والتي كانت تحاول إلصاق الإرهاب بالإسلام، ما يؤكد أن اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية أفضل وسيلة لمواجهة الإسلاموفوبيا. وراهن اليمين المتطرف على رد فعل انتقامي عكسي من الجالية المسلمة في نيوزيلندا على الحادث الإرهابي، لكن التحرك السريع للرموز الدينية والرسمية والتأكيد المجتمعي على أهمية المواطنة ونبذ العنف حال دون ذلك. ويؤدي المسلمون شعائرهم الدينية في ظروف آمنة بعد اتخاذ جملة من الإجراءات الاحترازية التي نفذتها الشرطة بمحيط المساجد، منها تركيب كاميرات مراقبة دقيقة، ووضع أجهزة للكشف عن الأسلحة والمتفجرات في مداخلها. وشدد فودة في حديثه مع “العرب” على أن التحركات الرامية إلى نشر المفهوم الصحيح للإسلام تحتاج إلى كسر حاجز اللغة، واختيار أئمة يتقنون اللهجات المحلية لتيسير التواصل، لأن مهمتهم لا تقتصر على مخاطبة المسلمين فقط، بل التحاور كذلك مع غير المسلمين، مع تطوير قدراتهم الشرعية والفقهية بتبني خطاب ديني أكثر حداثة وقدرة على تقنية استثمار التراث ومعالجته لإبراز الجذور التاريخية التي تدفع الشبهات وتخاطب العقول والقلوب. حصلت الجالية المسلمة منذ الهجوم الإرهابي، الذي أسفر عن مصرع وإصابة العشرات من المصلين، على مكتسبات غير مسبوقة مثل الموافقة على إقامة مدارس إسلامية، والسماح برفع الأذان عبر مكبرات الصوت تتنافى تصريحات إمام مسجد النور مع تقرير وكالة تطبيق القانون الأوربية “يوروبول” حول تنامي تهديدات اليمين المتطرف وخططه التي وضعت بعض الدول الغربية في موقف محرج مع رفعها شعار حماية الأوروبيين من انتشار الخطاب المتطرف عبر الإنترنت وإغراق مواقع التواصل الاجتماعي بمحتويات ومضامين متشددّة معادية للمسلمين. وفي رأي جمال فودة أن مهاجمي الإسلام في الغرب لا يعرفون عنه الكثير ولا يجدون المراجع التي توفر لهم المعرفة الكاملة، ما يتطلب التوسع في حركة الترجمة للكتب الدينية ونشرها في مكتبات المساجد والمراكز الإسلامية وتوفير الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالرد على الشبهات في المكتبات التقليدية والجامعات، لتقديم معلومات مستنيرة وموثقة يمكنها أن تخاطب جميع الفئات العلمية. ووفقا للجالية الإسلامية فإن حوالي 150 من مواطني نيوزيلندا أشهروا إسلامهم خلال الأربعة أشهر الماضية، بينهم شخصية قيادية في الشرطة المحلية، من بين 150 ألف شخص زاروا مسجد النور منذ وقوع الحادث، وهم يمثلون كافة أطياف المجتمع، حتى مجموعات ركاب الدراجات النارية أعربت عن تضامنها وعرضت المساعدة في تأمين المساجد. وطالب فودة بقوانين دولية تجرّم الخطاب المتطرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمواجهة الدعوات إلى العنف مهما كان نوعه أو المقصود منه، قائلا “إن الاتحاد الأوروبي مثلا لم يستطع فرض رقابته على الخطابات المتشددة على الإنترنت، رغم إعداد دوله برامج وفيديوهات تعليمية وقائية وسعي المنصات التي تقدم خدماتها لوضع ضوابط واضحة لمنع إساءة استغلالها للترويج لمحتوى يحض على التطرف والإرهاب”.
مشاركة :