بدأت حياتها مراسلة صحافية في البيت الأبيض قبل أن يولد حتى حاورته هناك رئيسا للولايات المتحدة. هي هيلين توماس، عميدة المراسلين الأميركيين، التي بدأت عملها في البيت الأبيض في يناير 1961 مع وصول الرئيس كينيدي قبل أن يولد باراك أوباما بثمانية شهور. قضت هيلين توماس خمسين عاما تسأل الرؤساء الأميركيين العشرة أو من ينوبهم، خمسة أيام في الأسبوع، عما يشغل بال الأميركيين والعالم. هناك في البيت الأبيض، وفي كثير من البلدان، صحافيون منذ عقود يستقون الأخبار لنقلها إلى الناس وهناك أيضا مؤسسات تحرص على مد الصحافيين بها، لا كما جرى في تونس يوم الخميس 27 يونيو وفي الأيام الموالية عندما جادت الدولة، في شأن مرض رئيسها، بتدوينتين يتيمتين غامضتين على فيسبوك للإعلان عن دخوله المستشفى ثم مغادرته. وكثيرا ما تُكال التهم للصحافة وللصحافيين التونسيين، دون سواهم، بالتقصير وبانعدام الكفاءة في الإخبار عندما يجدّ أمر يشغل الناس دون النظر إلى مواطن الخلل الأخرى. وكان موطن الخلل الأول، الذي جعل البلاد يوم 27 يونيو قاب قوسين أو أدنى من الفوضى، إمساك المعلومات عن الصحافيين بشأن صحة رئيس الدولة. ويتبين من هنا أن فشل الإعلام أو نجاحه في أداء مهامه أمر لا يقتصر على المؤسسات الصحافية وعلى الصحافيين فحسب، كما يُخيل إلى كثيرين، بل يتعداه إلى مستويين آخرين هما استعداد السلطة التي تؤمن بقيمة الإعلام ودوره في سير شؤون البلاد فتطلق الأخبار من ناحية واستعداد الناس بل حماسهم لمتابعتها من ناحية أخرى. وكان الصحافيون يومئذ يبحثون عن الأخبار وكان التونسيون آذانا صاغية كلهم. فمن المخل بدوره؟ حرية الإعلام واجب على الصحافيين لأنها حق الناس عليهم غير أنه لا يمكن أن نحمّل الصحافيين واجبا ونحجب عنهم المعطيات التي هي جوهر أداء ذلك الواجب إن تخلي السلطات العامة عن الرقابة المسبقة والمنع من النشر والحجز وغيرها من الممارسات الاستبدادية لا يضمن وحده بيئة مناسبة لحرية الإعلام وللحق فيه بل ينبغي لتلك السلطات المبادرة بإعلام الصحافيين والناس بما تملكه من معلومات لها وقع مباشر على حياتهم، كما يجري في الديمقراطيات عادة، لأن مؤسسات الدولة هي أكبر مصدر للأخبار وأكثرها تنوعا وشمولا. وقد تغيرت النظرة إلى الأمور حتى على المستوى الدولي في مجال الممارسات الإعلامية الجيدة. ولم تكن هناك مواثيق أخلاقية ولا تشريعات تجبر السلطات العامة على مد الصحافيين بالأخبار، فميثاق ميونخ لعام 1971، وهو الوثيقة المرجع في تنظيم المهنة، يذكر حق الصحافيين في النفاذ إلى المعلومات وهو حق ضمنته تونس بقانون النفاذ إلى المعلومات كما فعل نحو ثمانين بلدا آخر منها الولايات المتحدة بقانون 1967 بعد فضيحة ملفات فيتنام. والأمر نفسه ضمنه الدستور التونسي في الفصل 32 بالقول “تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة” غير أن هذا الكلام يثير مشكلتين، الأولى أن الصحافيين لا يحتاجون إلى الإطلاع على الوثائق التي تحمل معلومات فقط بل إلى بيانات تبادر بها السلطات يوميا ليصوغوها أخبارا، والمشكلة الأخرى أن ذلك الكلام لا يبين لنا من يضمن للصحافيين واجب الدولة الأخلاقي في فعل ذلك. ولا يوجد قانون في العالم يجبر الدولة على نشر ما يحتاج إليه الصحافيون، فهناك تقاليد أقوى من القانون أحيانا مثل الندوة اليومية في البيت الأبيض وغيرها من الوزارات الأميركية المهمة، غير أن دوائر إعلامية كثيرة أصبحت تتحدث عن الأمر بل هناك مؤسسات إعلامية أدرجت في مواثيقها الأخلاقية طلبا ملحا في باب حقوق الصحافيين موجها إلى السلطات يحثها على الالتزام بذلك. فالصحيفة الفرنسية الإلكترونية ميديابار، التي يبلغ عدد مشتركيها 140 ألفا، جددت في نظرتها لأخلاقيات المهنة بنشر مدونتها في مارس 2018. ويتمثل التجديد في أنها وضعت في المدونة، التي تتضمن المبادئ العامة في المواثيق الأخلاقية، ثلاثة شروط تطلب من الدولة الفرنسية الالتزام بها وهي الاستقلالية والتعددية والشفافية، وهي شروط وردت في إعلان أصدرته أعداد من وسائل الإعلام الفرنسية عام 2008. وليست الاستقلالية هنا واجبا على الصحافي بل أن تلتزم الدولة باحترام حقوق الصحافيين المعنوية حتى لا تتحول منتجاتهم إلى بضاعة وأن تضع الدولة حدا للتداخل بين الإعلام والأنشطة الصناعية والتجارية وأن ترفع الدولة نهائيا وكليا يدها عن قطاع الخدمة العامة في السمعي البصري. وليست التعددية في معنى احترام الصحافي للتنوع بل أن تحاصر الدولة تركز وسائل الإعلام في أيد معدودة وأن تعامل الإعلام الإلكتروني معاملة الصحافة المطبوعة من حيث الرسوم والهبات العمومية وأن تعترف بحق المواطنين في أن يكونوا معلقين ومنتجي أخبار ومدونين في أمن من كل الملاحقات القانونية. أما الشفافية، وهي مربط الفرس، فهي في ثلاثة مستويات، اثنان منها متداولان وهما أن تضمن الدولة حرية النفاذ إلى المعلومات وأن تحمي مصادر الصحافيين في حين أن الثالث يطلب منها أن تلتزم “بالنشر الواسع لكل ما تفعله السلطة طالما كان له تأثير مباشر في الحياة العامة، حتى يتمكن الصحافيون من النشر ومن مساءلة الحاكم”. تغيرت النظرة إلى الأمور حتى على المستوى الدولي في مجال الممارسات الإعلامية الجيدة. ولم تكن هناك مواثيق أخلاقية ولا تشريعات تجبر السلطات العامة على مد الصحافيين بالأخبار ألم يكن لما جرى في تونس في 27 يونيو تأثير في الحياة العامة؟ ألم يبلغ الأمر حد اتهام كتل نيابية علنا باستغلال مرض الرئيس لمحاولة الانقلاب عليه؟ وليس من المغالاة القول إن لغموض كلام الرئاسة دورا فيما جرى. صحيح أن “الرئاسة” نشرت تدوينة على فيسبوك صباح 27 يونيو تقول “تعرّض رئيس الجمهورية… إلى وعكة صحيّة حادة استوجبت نقله إلى المستشفى العسكري” غير أن القول لم يكن شفافا. لم تبين لنا التدوينة من قرر نقل الرئيس إلى المستشفى ولم تكن كلمة “وعكة” واضحة ولا نعتها بـ”الحادة” ولم يقل لنا أحد إن كان ذلك التشخيص تشخيص أطباء المستشفى أو تشخيص غيرهم… ومن حرر التدوينة أصلا؟ وهل يمكن لغير طبيب أن يفعل؟ لم يصدر بعد النقل بلاغ طبي يوضح شيئا من ذلك. فما الفرق إذن بين ما كان يُنشر عن الرئيس بورقيبة عندما كان يسافر للتداوي قبل خمسين عاما وما نُشر عن قائد السبسي؟ المفردات نفسها بالاقتضاب نفسه. في أكتوبر 2018 نظمت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس ندوة عنوانها “الإعلام والشفافية في الحياة العامة” بمشاركة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وهيئة النفاذ إلى المعلومة وجمعية مديري الصحف ودائرة المحاسبات أفضت إلى إحدى عشرة توصية ولا واحدة منها تطرقت إلى ضرورة أن تكون السلطات شفافة في توفير البيانات اللازمة للصحافيين حتى يسهموا في شفافية الحياة العامة. إن حرية الإعلام واجب على الصحافيين لأنها حق الناس عليهم غير أنه لا يمكن أن نحمّل الصحافيين واجبا ونحجب عنهم المعطيات التي هي جوهر أداء ذلك الواجب. كان أثر الحجب واضحا في مرض الرئيس لأنه اتصل بحدث جلل فأدرك الناس أثر إخلال الدولة بمسؤوليتها في تيسير مهام الصحافيين والأمر نفسه يحدث يوميا في ما هو أقل شأنا من المجريات المحجوبة التي لا نرى أثرها. فلو كانت السلطة في تونس تعقد كالبيت الأبيض ندوة يومية لسارت الأمور على غير ما سارت عليه في 27 يونيو. يروي صحافيان أميركيان بعد وفاة هيلين توماس عام 2013 أنها سألتهما، عندما اصطحباها في سيارتهما ذات يوم مغادرين البيت الأبيض، كيف لنا بعطل نهاية الأسبوع والعالم لا يتوقف؟
مشاركة :