بينما يتابع العالم فصول الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين، تدور معركة أخرى في صمت بين اليابان وكوريا الجنوبية. فقد قررت طوكيو إلزام مصدري بعض المواد المستخدمة في صناعة أشباه الموصلات والهواتف الذكية، بضرورة الحصول على إذن مسبق قبل الشحن إلى عملائهم في كوريا الجنوبية. ويعني هذا ببساطة تضرر عدد لا بأس به من أصحاب العلامات التجارية الكبرى، لا في كوريا وحدها، بل في العالم. فهل للرسوم الجمركية علاقة بهذا الخلاف؟ لنر. كانت الحكومة اليابانية فرضت قيوداً على الصادرات المتجهة إلى كوريا الجنوبية، فيما وصف بصفعة غير متوقعة لسلسلة موردي مكونات التكنولوجيا المتقدمة في العالم. كما عكس القرار تدهوراً جديداً في مستوى العلاقات بين حليفين كبيرين للولايات المتحدة. من الناحية العملية، يعني القرار تعذر الحصول على المواد اليابانية الدقيقة التي تستخدمها كبرى الشركات في كوريا الجنوبية، وأبرزها سامسونج للإلكترونيات، لتصنيع أشباه الموصلات وغيرها من المكونات الداخلة في صناعة الإلكترونيات، كالهواتف الذكية في أنحاء العالم. وتوج قرار طوكيو سلسلة من المناوشات الكلامية بين شينزو آبي رئيس وزراء اليابان، ورئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن، حول تاريخ الحرب العالمية الثانية. ويمكن القول إن آبي لجأ هنا إلى محاكاة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الضغط على دولة يستشعر منافستها لبلاده، لا عن طريق الإجراءات السياسية والدبلوماسية فحسب، بل بأسلوب العقاب الاقتصادي الموجه إلى إحدى الصناعات المهمة لدى الطرف الآخر. ففي الحالة الأميركية، سعت واشنطن إلى مواجهة ما تعتبره خطراً صينياً على أمنها القومي عن طريق الحد من الصادرات التكنولوجية الأميركية إلى شركة هواوي، عملاق صناعة الإلكترونيات في الصين. وبرغم هذا، ألمح ترامب مؤخراً إلى أنه سيعلق تنفيذ قراراته العقابية، في إطار ما يوصف بوقف لإطلاق النار في الحرب التجارية الدائرة بين أميركا والصين. وتكمن المفارقة هنا في أن اليابان وكوريا الجنوبية حليفان عسكريان للولايات المتحدة، ويتهددهما خطر واحد، يتمثل في تطوير كوريا الشمالية للصواريخ والأسلحة النووية. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ تعتري علاقات البلدين عواصف من التوتر بين وقت وآخر، بسبب احتلال اليابان لشبه الجزيرة الكورية خلال الفترة من 1910 إلى 1945. ومن الملاحظ أن مون لم يعقد أي لقاءات مع آبي، على هامش قمة العشرين التي عقدت في جزيرة أوساكا اليابانية مؤخراً، بعكس الحال بالنسبة لقادة المجموعة الآخرين. وقال مسؤول في وزارة التجارة اليابانية: إن القيود المفروضة على الصادرات المتجهة إلى كوريا الجنوبية لا تشكل رداً انتقامياً على حكم المحكمة الصادر في سول بشأن إيقاف العمل باتفاق نساء الترفيه، بل اتخذ لاستحالة تهدئة مخاوف طوكيو إزاء احتمال انتقال صادراتها من الإلكترونيات الدقيقة إلى طرف ثالث! وتشمل القيود اليابانية صادرات مادة البوليميد المستخدمة في صناعة شاشات الهواتف الذكية، ومكونات مقاومة الضوء، وفلوريد الهيدروجين عالي النقاء. وتستخدم هذه الصادرات في صناعة الدوائر الكهربائية في رقائق السليكون المكونة لأشباه الموصلات. وسارعت سول إلى إدانة القيود اليابانية، باعتبارها خرقاً لقواعد حرية التجارة العالمية. وقال وزير التجارة والصناعة والطاقة في كوريا الجنوبية: إن قرار طوكيو جاء كرد انتقامي من حكم المحكمة العليا في سول، بخصوص اتفاق تعويضات نساء الترفيه. وتعهد الوزير بالطعن لدى منظمة التجارة العالمية في القرار الياباني، فضلاً عن اتخاذ الإجراءات المحلية المناسبة. ويرى محللون أن اليابان تضر نفسها بنفسها عن طريق القيود المفروضة على التصدير إلى كوريا الجنوبية، فشركاتها باتت مهددة بفقد النشاط والعملاء هناك. وعلاوة على هذا، سيتسبب القرار في اضطراب السلسلة الصناعية الخاصة بهذه المكونات، فتتضرر الشركات اليابانية الكبرى، نظراً لاستخدامها أشباه الموصلات والشاشات تامة الصنع في كوريا الجنوبية !.ومما يثير الدهشة أن اليابان أعلنت اعتزامها وقف نظام المعاملة التفضيلية مع كوريا الجنوبية فيما يتعلق بمجموعة أخرى من الصادرات. وتتصدر شركتا سامسونج وإل.جي قائمة الشركات المرشحة للتضرر من القرار، وما قد يستتبعه من إجراءات جديدة. وتسيطر الشركات اليابانية على 90% من سوق مواد صناعة الشاشات المقاومة للضوء، و70% من سوقي البوليميد وفلوريد الهيدروجين النقي. ويؤكد الخبراء صعوبة تغيير خطوط الإنتاج بالسرعة اللازمة لمواجهة القيود اليابانية، وهو ما يعني اضطراباً متوقعاً في أسواق المنتجات النهائية. وفي ضوء هذا، عقدت وزارة التجارة والصناعة في سول اجتماعاً طارئاً مع كبار مصنعي الإلكترونيات، للبحث في الإجراءات الواجب اتخاذها. فهل يمكن للدولتين الدخول في هدنة مماثلة للهدنة الأميركية الصينية، قبل أن تتفاقم الأوضاع في سوق المنتجات الإلكترونية عالمياً، وهو ما سيضر بكبرى الشركات بلا استثناء.
مشاركة :