اضطر الطفل محمد حجاجلة على مدار ثمانية أيام في شهر أيار (مايو) إلى السير على قدميه نحو ستة كيلومترات يوميا تحت أشعة الشمس الحارقة للوصول إلى مدرسته في بيت لحم، بعد إغلاق السلطات الإسرائيلية المدخل الوحيد المؤدي إلى منزله في قرية الولجة. ويعيش محمد مع والديه وشقيقيه في منزل مبني من الطوب يفصله واد سحيق عن مستوطنة «جيلو» الإسرائيلية المقامة على أراضي القرية جنوب غرب القدس المحتلة، و«سياج أمني» عن بقية منازل قرية الولجة. وبدأت السلطات الإسرائيلية ببناء «السياج الأمني» الذي يصفه الفلسطينيون بـ»جدار الفصل العنصري»، في أوج الانتفاضة الفلسطينية (2000-2005) لفصل أراضيها عن الضفة الغربية، «لأسباب «أمنية». وسلك محمد لثمانية أيام طريق دير كيرمزان الكاثوليكي القريب سرا كونه منطقة عسكرية. ويقول: «كانت الطريق تستغرق وقتا طويلا في الذهاب والعودة. أخرج أنا وشقيقي في وقت أبكر صباحا ونعود متأخرين». وبدأت معاناة عائلة حجاجلة عام 2010، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية استكمال بناء «السياج الأمني». ووفق المخطط الإسرائيلي، جاء موقع المنزل في الأراضي المصنفة «ج»، أي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وبالتالي، كان الحل الذي اقترحته السلطات الإسرائيلية حينها إخراج العائلة من منزلها أو تطويقه من جهاته الأربع، ما دفع العائلة إلى التقدم بالتماس قانوني للمحكمة العليا. ويقول صاحب المنزل عمر حجاجلة «قاومت محاولات وزارات المالية والداخلية والدفاع الإسرائيلية لتعويضي بملايين الدولارات مقابل ترك المنزل، لكنني رفضت». وأقرّت المحكمة عام 2013 اتفاق تسوية بين الدولة ومحامي العائلة لحل مشكلة وصولهم إلى منزلهم بوضع بوابة حديدية وحفر نفق يربط المنزل بالقرية التي تبعد عشرات الأمتار فقط. عام 2017، انتهت السلطات من نصب بوابة بيضاء ضخمة بارتفاع خمسة أمتار على مدخل النفق الذي حفر عند أسفل «السياج الأمني» وسط تلة تعرف محليا باسم «خربة رغوان»، لتعزل العائلة عن امتدادها الطبيعي في القرية، وتصبح تحت مراقبة الكاميرات الأمنية. ووفق كريم جبران من مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة «بتسيلم»، وضع مسار الجدار معظم أراضي الولجة في الجانب الإسرائيلي داخل حدود بلدية القدس (المحتلة). ويبلغ طول «السياج الأمني» نحو 712 كلم، وهو مكون من أسلاك شائكة وخنادق وأسلاك كهربائية وجدران من الإسمنت المسلح يبلغ ارتفاعها تسعة أمتار. ويقع 85 في المئة منه في أراضي الضفة الغربية المحتلة. وهو يعزل 9,4 في المئة من الأراضي الفلسطينية عن القدس وإسرائيل، وفق الأمم المتحدة. داخل النفق الإسمنتي المؤدي الى منزل عائلة حجاجلة، رسم نشطاء العلم الفلسطيني ورسوم غرافيتي وعبارات تدعو إلى الحرية. وتفتح البوابة الإلكترونية عن طريق جهاز للتحكم عن بعد سلمته السلطات الإسرائيلية للعائلة ويعمل فقط من داخل المنزل، ما يجبر أحد أفراد العائلة على المكوث في المنزل باستمرار. ودفع ذلك عمر إلى تركيب جرس كهربائي متصل بالمنزل يقرعه العائدون ليفتح لهم مَن في الداخل البوابة. لكن الجرس كان سببا آخر في شقاء العائلة، فقد أبلغت قوة من حرس الحدود الإسرائيلية قبل نحو شهرين عمر أن الجرس يشكل خطرا أمنيا، لأنه وضع قرب منطقة عسكرية. واقتيد عمر إلى التحقيق، واستجوب لنحو أربع ساعات. ثم أطلق سراحه ليفاجأ بوضع قفل حديدي على البوابة يمنع فتحها بأي طريقة كانت. واستدعت هذه الخطوة محامي العائلة إلى التهديد بالتوجه إلى القضاء ما أجبر حرس الحدود على إزالة القفل بعد ثمانية أيام حبست خلالها العائلة في المنزل. لكن عمر حجاجلة بات على قائمة الممنوعين أمنيا من الدخول إلى إسرائيل للعمل، بعد أن كان حارسا ليليا في شركة عربية للمقاولات في القدس الشرقية. ويروي عمر (53 عاما) بحسرة لوكالة فرانس برس في باحة منزله التي تحيط بها حديقة زرعت بالورود والأشجار المثمرة، «كل فترة يختلقون ذريعة جديدة لإجبارنا على ترك المنزل، تعرضت للاعتقال والضرب أنا وأبنائي ومؤخرا، وهناك قضية ضدي لإجباري على هدم بئر الماء الذي نستخدمه». ويتابع: «إنهم يحاربونني في لقمة عيشي». ويمنع قرار المحكمة الإسرائيلية أي شخص غير أفراد العائلة من استخدام البوابة والنفق بدون تنسيق أمني مع الحاجز العسكري عند المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم. كما يمنع دخول أي سيارة غير تلك التي تمتلكها العائلة. ويقول عمر: «أي زائر يحتاج إلى تنسيق أمني قبل 48 ساعة من موعد الزيارة. وفي حال تمت الزيارة على الزوار المغادرة قبل العاشرة ليلا». ويشير حجاجلة إلى تجنب أقاربه وحتى أشقائه زيارته خوفا من الملاحقة بطريقة أو بأخرى. ويقول كريم جبران: «الأمن كلمة السرّ لكل الانتهاكات الإسرائيلية وغطاء للضم والتوسع الاستيطاني». ويقول محمد حجاجلة (عشرة أعوام): «أنا متضايق كثيرا، لا أستطيع اللعب مع أصحابي أو الذهاب إلى الدكان، عليّ أن أنتظر والدي أو أحد أشقائي لأرافقهم». ويشير الى أنه يمضي معظم وقته في المنزل، يقوم بواجباته المدرسية أو يشاهد التلفاز أو يبحث عن لعبة إلكترونية على هاتف والدته المحمول. ويقول الوالد: «اعتاد أولادي العزلة التي أرى أنها تقتلهم يوما بعد يوم، هم محبوسون في المنزل».
مشاركة :