أصبح الإنترنت بمثابة الشريان الذي يغذي اقتصاد العالم، لما يلعبه من دور كبير وحيوي في ترويج وتنويع خدمات التجارة ومساعدة الشركات والمعلنين على إبرام الصفقات التجارية إلكترونيا وجني الأرباح في كل زمان ومن أي مكان في العالم. وساهمت سهولة النفاذ إلى المعرفة والمحتوى الرقمي في فتح آفاق جديدة أمام الجميع للتعلم عبر الإنترنت، وتنفيذ التعاملات المصرفية والعمليات وحفظ الدفاتر وسداد الفواتير وتجديد المستندات من البيت أو من المقهى، والتأثير على الحياة الاجتماعية والثقافات العالمية. ولا يقتصر دور الشبكة العنكبوتية على الأغراض التجارية والاقتصادية والبحث العلمي والدراسة، بل أدى ظهور مواقع التواصل الاجتماعي إلى تحويل الإنترنت إلى ما يشبه الملتقى الذي يجتمع فيه سكان العالم لتبادل الأفكار والمعلومات والعمل معا وعن بعد. ومع تغلغل الإنترنت في حياة الناس، ماذا يمكن أن يحدث لو انقطعت هذه الخدمة لأيام معدودة أو اختفت تماما؟ يبدو أنه من الصعب على الكثيرين تصور العالم من دون خدمة الإنترنت ولو لبضع ساعات، فكثير من مناحي الحياة اليوم تعتمد كليا على الإنترنت. وتكمن المشكلة -حسب الخبراء- في أن الكثيرين لا يستطيعون مواجهة الحياة دون أن يتناولوا جرعات منتظمة من الإنترنت، فأغلبهم غير قادرين على الاستغناء عن عادة الاطلاع على الأخبار والآراء والمشاركة في شبكات التواصل الاجتماعي، بشكل آني وفوري ومستمر. ففي مطلع عام 2015، استخدم حوالي نصف مليون شخص برنامج “سلاك” للمحادثات الجماعية عبر الإنترنت بشكل يومي، والذي غالبا ما يستخدم من قبل مجموعات العمل المختلفة. وفي سبتمبر الماضي ارتفع ذلك العدد إلى ستة ملايين شخص. الإدمان على الإنترنت خلص استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غلوبال ويب إندكس”، للأبحاث المتعلقة ببيانات مستخدمي الإنترنت، في 34 دولة إلى أن مستخدمي الإنترنت يقضون ما معدله ست ساعات ونصف الساعة يوميا على الإنترنت. وأشار الاستطلاع إلى أن المستخدمين في تايلاند والفلبين والبرازيل ذكروا أنهم يقضون ما يفوق تسع ساعات يوميا على الإنترنت، ويمضون ثلث هذه الساعات على وسائل التواصل الاجتماعي. وأمام تزايد مشكلة إهدار الوقت في تصفح مواقع على الإنترنت التي لا تحقق أي فائدة، هل من الممكن أن يتقبل الناس فكرة الابتعاد عن وسائل الاتصال والتكنولوجيا ولو لفترات وجيزة؟ قبل عام 2008، كان جيف هانكوك، الأستاذ بجامعة ستانفورد الذي يدرس أيضا التأثيرات النفسية والاجتماعية للتواصل عبر الإنترنت، يتحدى طلابه من أجل قياس مدى قدرتهم على الاستغناء عن الإنترنت ليومين خلال عطلة نهاية الأسبوع، ثم يناقش معهم مدى تأثير ذلك عليهم. ولكن في عام 2009 لم تعد الأمور كسابق عهدها، إذ يقول هانكوك “عندما عرضت على الطلاب هذا التحدي، ثارت ثائرتهم، وقالوا إن هذا الفرض مستحيل وجائر”. حجب الإنترنت عن الدول ليس بالأمر الهين بعد أن أصبحت معظم الدول تعتمد في اقتصادياتها على الاقتصاد الرقمي وزعم الطلاب أن الانقطاع عن الإنترنت في عطلة نهاية الأسبوع سيمنعهم من إكمال واجباتهم في المواد الأخرى، ويدمر حياتهم الاجتماعية، وقد يجعل أصدقاءهم وأهلهم يشعرون بالقلق عليهم، ثم اضطر هانكوك إلى إلغاء هذا التحدي تماما، ولم يحاول أن يعيد الكرة قط. وأضاف “كان هذا في عام 2009، أما الآن فمع وجود الهواتف المحمولة، لا أعرف كيف سيكون رد فعل الطلاب إن طلبت منهم ذلك”. وتوصلت الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة إلى أن الاتصال بشبكة الإنترنت قد بلغ مستويات غير مسبوقة، ففي عام 1995، كان عدد مستخدمي الإنترنت أقل من واحد بالمئة فقط من سكان العالم، وكان أغلبهم من الغرب، ويستخدمونه بدافع الفضول. أما حاليا فيستخدم الإنترنت ما يزيد على ثلاثة ونصف مليار شخص، أي تقريبا نصف سكان العالم، ويزداد العدد بمعدل عشرة أشخاص تقريبا كل ثانية. وينحدر مستخدمو الإنترنت من جميع الأعمار والمستويات الثقافية والمهنية، وأصبحوا لا يرتبطون بالشبكة عبر الكمبيوتر فقط بل عبر التلفزيون والكمبيوترات اللوحية والهواتف الذكية. ووفقا لمركز “بيو” للأبحاث، يقول خمس الأميركيين إنهم يستخدمون الإنترنت “بلا انقطاع تقريبا” في حين يقول 73 بالمئة منهم إنهم يستخدمونه يوميا على الأقل. وبالمثل، خلص استطلاع للرأي، أجري في المملكة المتحدة عام 2016، إلى أن نحو 90 بالمئة من البالغين استخدموا الإنترنت في الأشهر الثلاثة السابقة لإجراء الاستطلاع. ويتمنى الكثير من الناس أن يقضوا وقتا أقل على الإنترنت، ولكنهم لا يكادون يبتعدون عن الهاتف الذكي حتى تظهرعليهم علامات القلق. ويقول ستيفان هوفمان، أستاذ علم النفس بجامعة بوستن والخبير في دراسة المشاعر الإنسانية، إن البعض قد تنتابهم حالة من القلق عند الابتعاد عن مواقع التواصل الاجتماعي، ويشعرون برغبة ملحة في العودة إليها. القلق الرقمي يطلق العلماء على هذا النوع من القلق اسم “القلق الرقمي”، وهو المتعلق بوسائل الاتصال عموما. ويضيف هوفمان أن وجود مشاعر سلبية على المدى البعيد تجاه الاستخدام الشخصي لوسائل التواصل الاجتماعي، والفشل في التوقف عن التعلق بها قد يعززان مشاعر الاكتئاب. وأشار هوفمان إلى أن بعض الناس ترعبهم فكرة فقدان الاتصال بالعالم عبر الهاتف الذكي، لئلا يغفلوا أي خطر وشيك، أو لمتابعة الأخبار السياسية. وكشفت دراسة، أجراها باحثون من الأكاديمية المجرية للعلوم وجامعة أوتفوس لوراند في بودابست، أن ثلاثة أرباع البالغين الذين أبعدوا عن هواتفهم الذكية لفترة قصيرة من الوقت، خلال إجراء الدراسة، ظهرت عليهم أعراض تعرف في علم النفس باسم “إعادة توجيه الانفعالات”، وهي أعراض تظهر على المرء عندما تتجاذبه انفعالات ودوافع مختلطة، والتي تمثلت في كثرة الحركة، أو حك الرأس. وهناك مبررات عديدة تجعل الناس يشعرون بالرعب من فكرة انقطاع الإنترنت ولو لحيز زمني قصير، فالبعض يخشون أن تفوتهم الكثير من الأحداث في العالم، أو يفقدون فرص الثرثرة مع الأصدقاء الافتراضيين، والبعض الآخر تخيفهم فكرة التخلي عن الصورة التي أمضوا وقتا مطولا في رسمها لأنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكثيرون لا يريدون مبارحة هذه المواقع لأنهم يعتقدون أن عليهم إثبات وجودهم عليها لتحقيق النجاح في عملهم.ومؤخرا أجرى جون جرو هول، أستاذ علم النفس الأميركي، دراسة على عينة من الأشخاص اعتبرهم مدمنين على الإنترنت وينحدرون من ثقافات ودول مختلفة بما فيها دول عربية، معتمدا فيها على التواصل مع هؤلاء عن طريق الحوارات الحية في غرف الدردشة أو البريد الإلكتروني، فتوصل إلى أن إدمان الإنترنت عملية مرحلية. واستنتج هول أن المستخدمين الجدد للإنترنت في العادة هم الأكثر استخداما وإسرافا في الدخول للشبكة بسبب انبهارهم بها، وبعد فترة تحدث لهؤلاء المستخدمين خيبة أمل، بسبب عجزهم عن تحقيق طموحاتهم واحتياجاتهم الشخصية من خلالها، إلا أن البعض من هؤلاء المستخدمين تطول معهم المراحل الأولى ولا يستطيعون تجاوزها إلا بعد فترة، وهؤلاء من أكثر الفئات تعرضا للوقوع في إدمان الإنترنت. كما توصل هول إلى نتيجة مفادها أن الأشخاص المعرضين للإصابة بإدمان الإنترنت عادة ما يكون لديهم انجذاب شديد للإثارة العقلية التي يوفرها لهم الكم الهائل من المعلومات الموجودة على الإنترنت، وأن مدمن الإنترنت يشعر بحالة من القلق والتوتر الشديدين عندما يتم فصل جهاز الكمبيوتر الذي يستخدمه عن شبكة الإنترنت، كما أنه يصبح في حالة ترقب مستمرة لفترات استخدامه القادمة على الإنترنت، ولا يشعر بمرور الوقت طالما كان متصلا بالشبكة. ويقول ويليام داتون من جامعة ميشغان، ومؤلف كتاب “المجتمع والإنترنت”، إن “المشكلة تكمن في أن الناس يستبعدون فكرة انقطاع الإنترنت، وفي الوقت نفسه لا يدركون مدى تغلغل الإنترنت في كل جوانب حياتهم تقريبا”. ولكن نظريا، قد ينقطع الإنترنت لسبب من الأسباب لفترة من الزمن، سواء في دولة بعينها أو على مستوى العالم. فعلى سبيل المثال قد يستهدف القراصنة الإلكترونيون الإنترنت ببرمجيات خبيثة تستهدف مواطن الضعف في أجهزة توجيه المعلومات على الشبكة، ليصيبوا الشبكة بالشلل التام. ففي عام 2007 اتخذ بروس ويلس نجم أفلام الحركة الهوليوودي من المستقبل مسرحا وتنبأ في النسخة الرابعة من فيلم “الموت القاسي”، بإمكانية أن تقوم مجموعة من القراصنة بعملية اختراق لقاعدة بيانات الولايات المتحدة بغرض استهداف البنية التحتية للشبكة، وقد أطلقوا ما أسموه “مزاد النار” الذي احتجز النظام الفيدرالي الأميركي، وأثار ذلك حالة من الذعر والفوضى تحولت في ما بعد إلى حرب أهلية، فيما كافح بروس ويلس الذي لعب دور الشرطي الخارج عن النظام من أجل إنقاذ الولايات المتحدة من الانهيار وإنقاذ عائلته في نفس الوقت. رغم أن الفيلم قدم تصورا متخيلا عن العالم ما بعد حرب رقمية تستهدف قاعدة البيانات الرقمية (داتا) وانعكاساتها، إلا أنه من غير المستبعد أن يستشرف بعض من الخيال المستقبل بوضوح مذهل. وربما يتمكن القراصنة من قطع الكابلات الموجودة في أعماق البحار التي تنقل كميات هائلة من الرسائل والبيانات بين القارات ما قد يؤدي إلى حدوث مشكلات جسيمة، لأن ذلك سيفصل جزءا من العالم تماما عن الجزء الآخر. ورغم أن الكابلات ليست أهدافا سهلة للقراصنة، إلا أنها قد تقطع في بعض الأحيان بسبب حوادث عرضية، ففي عام 2008، عانى سكان الشرق الأوسط والهند وجنوب شرق آسيا الأمرين حين انقطع الإنترنت في أجزاء كبيرة من هذه المناطق ثلاث مرات، إما بسبب قطع في الكابلات البحرية أو إتلافها. وكثر حديث العلماء مؤخرا عن العواصف الشمسية القوية التي ستضرب الأرض، وإن صدق نبأهم وحدث فإنها قد تخلف دمارا واسعا لأنظمة الاتصالات، فمن شأن تلك التوهجات التي ترسلها صوب الأرض أن تدمر الأقمار الصناعية وشبكات توزيع الكهرباء وأنظمة الكمبيوتر. ويقول ديفيد إيغلمان، عالم أعصاب بجامعة ستانفورد، “إن التوهج الشمسي يحقق ما تعجز عن تحقيقه القنابل والهجمات الإرهابية في غضون لحظات”. كما أن بعض الحكومات قادرة على إصدار أوامر بحجب الإنترنت وشبكات الاتصال عن الشعوب بالكامل، مثلما حدث في السودان في أعقاب قمع دموي للاحتجاجات في يونيو 2019، وفي مصر إبان الربيع العربي سنة 2011، لتصعب على المحتجين التنسيق في ما بينهم لتنظيم المسيرات. وتم قطع الاتصال بشبكة الإنترنت في سوريا عام 2011 في بداية الثورة السورية كما تم قطع الاتصال بالشبكة مرة أخرى في مايو 2013، ثم في مارس 2014. كما أغلقت تركيا وإيران أيضا شبكة الإنترنت أثناء الاحتجاجات. ويشاع أن الحكومة الصينية لديها الآلية القانونية التي تجيز لها حجب الإنترنت. وفي الولايات المتحدة، اقترح أعضاء من مجلس الشيوخ مشروع قانون يجيز للحكومة قطع الإنترنت لحماية البلاد إذا ما تعرضت لهجمات إلكترونية. إلا أن حجب الإنترنت عن الدول ليس بالأمر الهين، بعد أن أصبحت معظم الدول تعتمد في اقتصادياتها على ما يعرف بـ”الاقتصاد الرقمي”، إذ تقدر قيمة الاقتصاد الرقمي للولايات المتحدة بـ5.9 تريليون دولار، أي ما يوازي 33 بالمئة من الناتج المحلي، ويمثل 28 بالمئة من إجمالي الأصول، كما أن 43 بالمئة من العمالة في الولايات المتحدة موجودة في القطاع الرقمي، بحسب دراسة أجرتها شركة “إكسنشر” للاستشارات وخدمات التكنولوجيا. وأشارت الدراسة إلى أن ما يقرب من 28 بالمئة من اقتصاديات الدول القوية يعتمد بشكل أساسي على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتجارة الإلكترونية. ورجحت أن هناك فرصة اقتصادية هائلة في سوق الاقتصاد الرقمي في حال تم توظيفه بشكل جيد، والاستفادة منه بالطريقة المثلى، وتقدر تلك الفرصة الاستثمارية بنحو 1.5 تريليون دولار في حال نجحت الشركات العالمية في تفعيل منظومة الاقتصاد الرقمي لديها، فكيف يكون الحال لو انقطعت خدمة الإنترنت عن العالم؟
مشاركة :