تسعى الولايات المتحدة، بحسب استراتيجيتها المرسومة، إلى التفاوض مع إيران على اتفاق جديد يرمي إلى ضبط برنامجيها النووي والصاروخي بالإضافة إلى سياساتها الإقليمية. ولتحقيق هذه الغاية انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي ثم فرضت سلسلة عقوبات مشدّدة على إيران، التي هدّدت بمقاومتها بكل الوسائل، ما يشمل أيضاً استخدام ميليشيات وكلائها/ أدواتها لمهاجمة أهداف ومصالح أميركية. لذلك حرّكت واشنطن قطعاً بحرية بينها حاملة طائرات بغية «ردع» إيران ودفعها إلى استجابة الدعوات إلى التفاوض «بلا شروط مسبقة» وعدم اللجوء إلى وسائل عسكرية. انضبط التوتر العسكري نسبياً ومؤقّتاً، غير أن إيران تحاول إبقاء حالٍ من التصعيد وتواصل العمل لإثبات عدم قبولها بأي أمر واقع تقيمه أميركا. ومع تجنّبها استهداف الأميركيين فإنها لا تفوّت أي فرصة لاستفزازهم، إذ أوعزت إلى «حوثيي» اليمن للقيام بعمليات ضد منشآت ومرافق سعودية، وأقدمت على ضرب ناقلات وسفن نفطية في مياه الخليج، ثم بلغت نقطة ساخنة حين أسقطت طائرة أميركية مسيّرة وكان إعلان الرئيس الأميركي أنه أوقف ضربة عسكرية لمواقع إيرانية بمثابة «إنذار» بأن الاشتباك كان وشيكاً، لكنه فرض عقوبات إضافية وجدّد الدعوة إلى التفاوض. في الوقت نفسه اشترطت طهران رفعاً مسبقاً للعقوبات لتدرس احتمال التفاوض، ثم أضافت شرط العودة إلى الاتفاق النووي وإلا فإنها ستخفض التزامها قيود الاتفاق النووي، وقد بدأته فعلاً. وتزامن ذلك مع تطوّرَين: 1) احتجاز بريطانيا ناقلة تحمل نفطاً إيرانياً لدى مرورها بجبل طارق في طريقها إلى الساحل السوري، وهدّدت إيران بالرد على بريطانيا بالمثل، أي باحتجاز ناقلة، وهو ما حاولته لكنها اصطدمت بتحذير عسكري يرجّح بأنها لم تكن تتوقّعه. و2) ارتباك الدول الأوروبية الثلاث بعدما استأنفت إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة أعلى من تلك المسموح بها، وكذلك تجاوز الحدّ الأقصى لمخزونها المخصّب، ما يعني إما إطلاق آلية فض النزاع التي ينص عليها الاتفاق النووي، أو عودة بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى فرض عقوبات على إيران. قبل حسم أي من الخيارين، تبذل باريس محاولة جديدة مع طهران التي زارها مبعوث فرنسي مرّتين خلال أسبوع، وفُهم أن مهمّته تركّز على إقناع إيران بالتفاوض بـ «إجراءات عملية» يمكن تنفيذها، وبقبول «هدنة» تتيح للأوروبيين إيجاد «مساحة حوار» بين طرفي الصراع. قد لا تمانع واشنطن مثل هذه الهدنة، أما إيران فسألت عما تحصل عليه في المقابل، وأشارت إلى أنها تريد على الأقلّ تخفيفاً للعقوبات. والسائد هنا أن طهران تعتبر أن التفاوض يجب أن يقتصر على الاتفاق النووي في إطار مجموعة الدول الـ 5+1 التي وقّعت عليه، وليس مؤكّداً أن واشنطن تحبّذ هذه الصيغة بعدما وسّعت مطالبها وشروطها التي يصعب التوافق عليها مع دول المجموعة، خصوصاً روسيا والصين. هكذا تتضح معالم الحلقة المغلقة والمفرغة، التي تدور فيها وقائع الأزمة. فالولايات المتحدة انطلقت من واقع أن هناك اتفاقاً تصدّى لمشكلة البرنامج النووي الإيراني من دون الالتفات إلى مسائل أخرى خطيرة تتعلّق به مباشرةً (البرنامج الصاروخي) أو كانت متفاعلة خلال التفاوض عليه وتفاقمت بعده (التدخّلات الإيرانية في الإقليم). وبما أن الاتفاق ما كان ليُنجز لولا أميركا، فإن مهمة تصحيحه تقع أيضاً على عاتق أميركا. أما إيران فتصرّفت، غداة توقيع الاتفاق، كما لو أن كل سياساتها اكتسبت شرعية دولية، فرفضت أي مساءلة عن صواريخها التي نقلت كميات منها إلى أتباعها، وصارت تدخّلاتها أكثر وقاحةً وتغوّلاً، إذ أستفوت بكونها مرّت بمفاوضات صعبة واستطاعت ترويضها وحصرها في شأن نووي لم تكن أحرزت فيه تقدّماً مهماً وإلّا لكانت شروطها في التفاوض أكثر تصلّباً. هذه الحلقة المغلقة مرشّحة لمزيد من الاحتقان في غمار البحث عن تحالف دولي لحماية الملاحة في مضيق هرمز، وسط انقسامات دولية لا تنفكّ تترسّخ. مبدئياً، تدعم الدول جميعاً تأمين مسار التجارة العالمية لكنها لم تدعم الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي والعقوبات المستأنفة على إيران، وهي تخشى حالياً انزلاق التوتّر إلى مواجهة، وبالتالي فإن مشاركتها في التحالف ستكون حذرة ومشروطة. لا شك أنها تأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب، إلّا أنها تراقب التصعيد الإيراني وتتوقّع أن يشتدّ متى وجدت أن تحالفاً كهذا سيمنعها من استخدام تعطيل الملاحة في مضيق هرمز للضغط على الولايات المتحدة في شأن العقوبات.
مشاركة :