القطامين يكتب: لا تَخَرُّصاً ولا إِفْكا ..

  • 7/18/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تحزم تيريزا ماي حقائبها استعدادا لمغادرة 10 داوننغ ستريت. لم تصمد الفكرة طويلا. لقد انهارت أمام استحقاق البريكست وفشلت في إخراج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي، لكنها ستغادر بشعورٍ هو مزيج من الفخر وخيبة الأمل. أفصحت عن ذاك الشعور في رقصتها الاخيرة.في كل الدنيا، ينتقل السياسي من شأنه الخاص ليكون هدفاً متاحاً ومكشوفا للنقد والمعارضة والإجبار على الإستقالة. وهو شأنٌ يتعلق بدرجة كبيرة بإيمان هذا السياسي بحتمية المسير على درب الديمقراطية الحقيقية، ويفصحُ عن تقاليد سياسية حصيفة وراسخة، حارب من أجلها زعماء وراح من أجلها ضحايا في ميادين الحروب، ودفع الناس ثمناً باهظا لها، فأصبح من نافلة القول أن هدف هذه التقاليد العريقة الأول هو مصلحة البلاد لا مصالح السياسيين المتشابكة.سترحل تيريزا بعد ثلاث سنين من القتال من أجل مبادىء حزبها. لقد اعترفت بالخيبة. لكنها كانت كاملة الإحترام من معارضيها قبل حلفائها. لقد تحلّى الجميع بأخلاق الفرسان، فلم ينظروا للمسألة على أنها خيانة أو زندقة، أو خروج عن المألوف، ولم تتهم ماي ولا غيرها ولم تُرْمَ بالبهتان من القول والعمل، وبقيت مناط فخر الحلفاء والمعارضة.لم يحفظ الناس في شرق المتوسط أسماءً شهيرة لرؤساء الحكومات الإنجليز. وإذا ما استثنينا تشرتشل من ذاكرة الحرس القديم، فإن اسم تاتشر مزروع في ذاكرة الناس كإمرأة حديدية كان تأثيرها الطاغي في علاقات المملكة المتحدة الخارجية لا الداخلية.حكمت تاتشر أحد عشر عاماً ثم تلاها أسماء يحفظها المتابعون لجذور الأزمات جيدا، من جون ميجور واهب الجيوب الآمنة إلى توني بلير الذي اعترف بعد أُمّة أن حكومات الغرب "لم تكذب ولكنها ربما اخطات" فيما تعلّق بالعراق. وحدهم البقية ممن أشغلتهم الشؤون الإنجليزية الداخلية عما يحدث في العالم. ربما كانت السيدة ماي أسوأهم حظاً وقد جاءت لتتولى مهمة الإنفصال إثر استفتاء أجراه المواطنين على مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي British exit في يونيو 2016، وهو استفتاء اتسمت دوافعه بمظاهر العدائية للمهاجرين وادعى أنهم كانوا سبباً في تدني الخدمات الصحية وتراجع مستوى الرفاه، وقد اقتنع 52% من مجموع الذين صوتوا، بهذه الأفكار وهذه الأسباب.على مر السنين الثلاث، قادت السيدة ماي مفاوضات الطلاق" بجرأة وجسارة، كان ذلك في إطار مصلحة حزبها وبلادها ومبادئها، وأجرت في سياق هذه المفاوضات اتفاقات لم تلق قبولا في حزبها أولا ولا في البرلمان، وبقي البرلمان منقسما بشكل حاد حتى أدت تيريزا رقصتها الاخيرة قبل الإستقالة.في لندن استمع بتمعن لصخب الإنجليز وهم يستعدون لانتخاب واحدٍ من اثنين خلفاً لماي. أيّاً منهما لن يتخلى عن الفكرة ولا عن المبدأ. إنها تقاليد راسخة لا ترسمها المصالح قدر ما ترسمها وتحبكها رؤية الكيانات السياسية الناضجة، حتى لا يكون بإمكان أحد هناك أن يخرج عن سكّتها.لا ترتبط فرص نجاح السياسيين في دول العالم التي تنعم بالديمقراطية الحقيقية، بإعلام ولا بسهرات ولا أمسيات، قدر ارتباطها بالرضوخ لرأي الناس أولا واخيرا، وكذا ليس بمقدور أحد في لندن ولا في باريس ولا في واشنطن ولا في كل العواصم التي تترقرق مياه أنهارها وبحارها على موسيقى العمل السياسي المؤسسي، أن يعزف منفرداً ولا أن يدعي أنه بدعة من الساسة فريد عصره وفارس دهره. ليس في قاموس الناس هناك هذا التَخَرُّص ولا هذا الإِفْك.وهذا، أيها السادة، ما كان من شأن الفرنجة الذين اقتتلوا عقوداً فخرجوا في النهايات بإرساء قواعد الأمن والسياسة. أما ما كان من شأن البلاد شرق المتوسط، فستكفيهم مهرجانات الإنتخاب التي تقرع طبولها في طول الدول وعرضها، دون أحزاب ودون برامج ودون رؤية، ولكأننا محكومون بما ترسمه لنا رؤوس الأموال وامبراطوريات الإعلام، في السير نحو الإيغال في وحل الجهل إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ورحم الله عمر ابو ريشة إذ يقول: أمتي هل لك بين الأممِ ... منبرٌ للسيف أو للقلمِأتلقاكِ وطرفي مُطرقٌ ... خَجِلاً مِنْ أَمْسِكِ المُنْصَرِمِويكاد الدمعُ يهمي عابثاً ... ببقايا كبرياءِ الألمِ.

مشاركة :