حافة الديمقراطية” The Edge of Democracy هو التجربة الأكثر طموحا للمخرجة البرازيلية بيترا كوستا التي اختارت أن تعلق على لقطاته ومشاهده بصوتها وباللغة الإنكليزية، فمن الواضح أنها توجه فيلمها، أساسا، للعالم الخارجي، أي لغير المطلعين على ما وقع في البرازيل، كونها ترى أيضا أن ما تعرضت له الديمقراطية في بلادها قابل للتكرار وقد حدث بالفعل في بلدان أخرى. ربما تكون هناك نسخة بتعليق باللغة البرتغالية موجهة للجمهور في الداخل البرازيلي، لكن النسخة التي عرضت في بعض المهرجانات السينمائية قبل أن تجد طريقها إلى شبكة نتفليكس، هي النسخة التي تتضمن تعليقا صوتيا مباشرا بصوت بيترا ومن خلال نغمة صوتها التي تعكس الحزن والأسى، وهي تطرح الكثير من التساؤلات القاسية. وفي خلال فيلمها تقول بيترا إن عمرها من عمر الديمقراطية في البرازيل. فقد ولدت هي عام 1983 وعادت الديمقراطية إلى البرازيل بعد عقدين من الدكتاتورية العسكرية عام 1985. وهي تمزج في فيلمها بين الخاص والعام، أي بين ذكرياتها الشخصية وتفاصيل تتعلق بأسرتها والبيئة التي نشأت فيها، وبين ما وقع في البرازيل من تطورات درامية عنيفة خلال السنوات الماضية. ربما لا يكون هذا المزج ناجحا تماما إلاّ أنه يظل ضروريا. لماذا؟ لأن بيترا نموذج مثالي لابنة الطبقة الوسطى (البورجوازية) التي نشأت في أسرة متمردة على طبقتها، ثورية في توجهها السياسي، تدعم حركة الطبقة العاملة. فقد كان والداها من النشطاء الثوريين في السبعينات وتعرضا للاعتقال والتعذيب. ومن قلب هذه الحركة النضالية العمالية جاء بطل هذا الفيلم وهو البطل الحقيقي في عيون ملايين البرازيليين حتى اليوم أي الرئيس السابق لولا دا سيلفا (أو “لولا” طبقا لما يطلق عليه محبوه ورفاقه).وبعد أن غادر والدا بيترا المعتقل ذهب والدها وقضى فترة في الولايات المتحدة قبل أن يعود ليقتفي أثر والده -جد بيترا- ليؤسس شركة إنشاءات معمارية. وتقول هي إن شركات الإنشاءات العقارية كانت دائما القوة المؤثرة في السلطة في البرازيل. وكانت خطة جدها هي التي اعتُمدت في إنشاء العاصمة البرازيلية الجديدة برازيليا التي افتتحت عام 1960. ونحن نرى لقطات من عمليات الإنشاء والبناء في العاصمة الجديدة، وهي لقطات من الأرشيف. وتستخدم بيترا الكثير من أفلام الفيديو المنزلية التي تصوّر أسرتها وتصوّرها عندما كانت طفلة صغيرة، كما تستعين بالكثير من لقطات الأرشيف، ومقاطع من برامج التلفزيون، والمقابلات المصوّرة التي أجرتها خصيصا لفيلمها هذا وأتيحت لها الفرصة لمقابلة كبار المسؤولين بمن فيهم لولا نفسه وخليفته ديلما وغيرهما. ومن خلال هذه المادة تروي قصة الصراع السياسي في البرازيل منذ الانقلاب العسكري عام 1964، ثم حركة المقاومة السرية والعلنية إلى حين سقوط الدكتاتورية العسكرية في 1985، ثم صعود اليسار بقيادة لولا الذي يتمتع بجاذبية خاصة، وكيف كانت بدايته في العمل النقابي، ثم قرّر أن يخوض الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات وفشل في الوصول إلى المنصب، لكنه سينجح فقط عام 2002 عندما يقرّر التحالف، كما يروي لنا الفيلم، مع خصومه “الطبيعيين” أي مع الأوليغاركية الحاكمة الممثلة في أحزاب يمين الوسط، وبعد ما أبداه من مرونة كبيرة في التعامل مع طبقة رجال الأعمال. وهذه الطبقة تحديدا هي التي ستلعب دورا في سقوطه وتصفية تجربته ووصمه بالفساد كما تشرح لنا بيترا في معظم أجزاء الفيلم بعد ذلك. حرب طبقيةتنتمي بيترا إذن إلى الطبقة الثرية صاحبة المصلحة في إفشال تجربة الإصلاح الاجتماعي التي خاضها بنجاح في البداية الرئيس لولا مدعوما بنقابات العمال. وهي تقتبس على سبيل السخرية عبارة الملياردير الأميركي ورجل الأعمال الشهير وورين بوفيت “هناك حرب طبقية الآن.. نعم. لكن طبقتي هي التي تشنها وهي التي ستكسبها”. وتستخدم المخرجة الكثير من اللقطات الحية المباشرة التي التقطتها للمظاهرات التي عمت البلاد أولا لتأييد لولا كما نرى نماذج لما يقوله الفقراء عنه، وكيف أن برنامجه للرعاية الاجتماعية ساعد ملايين الأسر الفقيرة على عبور خط الفقر والصعود الاجتماعي وتعليم أبنائها في المدارس والجامعات والحصول على فرص عمل.. إلخ. ثم نشاهد الوجه الآخر أي بعد أن اندلعت مظاهرات الاحتجاج والغضب ضد لولا التي استخدمت فيها طبقة “أصحاب المصالح” الكثير من أنصار لولا السابقين من الفقراء، وبعد أن قامت أجهزة الإعلام التي يقول لنا الفيلم إنها مملوكة من قبل سبع أسر ثرية في البرازيل، بدور بارز في “الحرب الطبقية” التي انتهت بإسقاط لولا ثم خليفته الرئيسة ديلما روسيف التي تم عزلها، ثم يصوّر الفيلم كيف تحالف القضاء وتلاعب بالقوانين بل وتجاوزها أحيانا للإيهام بوجود مخالفات فساد تدين لولا، رغم تقديم أدلة ملموسة على ذلك، وانتهى الأمر بالحكم عليه بالسجن 12 عاما. "حافة الديمقراطية" ليس من أفلام السرد "الموضوعي" المحايد، فهو فيلم منحاز، تتخذ مخرجته موقفا واضحا تعبر عنه، برفض الدكتاتورية هناك مشاهد للمظاهرات الصاخبة التي خرجت للتعبير عن رفض الحكم بالسجن، ودعوة لولا إلى عدم تسليم نفسه للسلطات، لكنه يقف ويخطب في عشرات الآلاف من أنصاره قائلا إنه بالتزامه بالقانون وتسليم نفسه سيكشف تلاعب الجانب الآخر بالقانون. ويتضمن الفيلم لقطات قديمة تعود إلى 40 عاما مضت للرئيس لولا عندما كان لا يزال عاملا في مصانع الصلب ثم بعد التحاقه بالعمل النقابي، ولقطات أخرى له مع زوجته الجميلة في شبابهما، وهي الزوجة التي ستصاب بجلطة وتفارق الحياة بعد ستة أشهر من إدانة لولا وتتوفى كما نرى في الفيلم في 4 فبراير 2018. وفي الفيلم لقطة شهيرة للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وهو يصافح لولا ويخاطبه باعتباره “أقوى رئيس في العالم”، حيث كان يتمتع بتأييد 87 في المئة من الأصوات في استطلاعات الرأي. مرارة النظرة إلى الصديقرغم التفاصيل التي تقدمها بيترا في فيلمها لما أنجزه لولا إلاّ أنها توجه النقد المشوب بنغمة تحسر وحزن إلى لولا، أولا لتقاعسه كما تقول، عن الإخلاص لحلفائه الأساسيين، أي العمال والطبقة العاملة عموما، والحلف الذي عقده مع رجال الأعمال وعقد التحالفات البرلمانية معهم. وعندما تواجهه بالسؤال في أحد المشاهد، يقول حرفيا إنه حتى “لو المسيح نفسه جاء إلى البرازيل لاضطر إلى التحالف مع يهوذا”. ثانيا تشعر بيترا بأن لولا لم يقم بما كان يتعين عليه القيام به، أي بتعديل النظام السياسي والانتخابي ووضع معايير جديدة لعلاقة القضاء بالسلطة، وهو ما كان قد تعهد بالقيام به، لذلك جاءت الإطاحة به من جانب خصومه السياسيين عن طريق استخدام القانون والتشريعات البرلمانية والنظام القضائي القائم على الرغم من عدم وجود أدلة تدينه بالفساد في علاقته بشركات الإنشاءات وحصوله بالتالي على شقة فاخرة كهدية، وهو ما اعتبر بمثابة رشوة. لكن الفيلم ينتقد أيضا موقف لولا المتقاعس عن التعامل بجدية كما كان ينبغي، مع الانحرافات التي وقعت في صفوف حزبه. تنجح الأوليغاركية في عزل الرئيسة ديلما التي خلفت لولا في الرئاسة، ثم في استصدار حكم بسجن لولا لكي تحول بينه وبين النجاح في الانتخابات التالية التي أعلن بالفعل اعتزامه خوضها، ثم انتخاب بولسونارو ضابط الجيش السابق ذي الميول الفاشية الذي تعهد في خطاباته ليس فقط بحظر نشاط قوى اليسار بل بقتل اليساريين أيضا إذا لزم الأمر، وتطهير البرازيل منهم، كما ترحم علانية على عهد الانقلاب العسكري واعتبر الجنرالات الذين كانوا في الحكم في زمن الدكتاتورية أبطالا يجب أن تحتفل بهم البرازيل. الفيلم يرصد كل هذه التداعيات والتطورات، من خلال الصور والأصوات والمقاطع الوثائقية والمزج بين الشخصي والموضوعي. وفي أحد المشاهد تذهب المخرجة لإجراء مقابلة مع الرئيسة ديلما (قبل عزلها) وتصطحب معها والدتها.وكانت والدة بيترا قد سجنت وتعرضت للتعذيب في نفس السجن الذي سجنت فيه ديلما في زمن الدكتاتورية العسكرية. ولكن المرأتين لم تتقابلا من قبل. وقد أتيحت الفرصة الآن للقاء والتحاور فيما بينهما واستعادة الماضي، وكيف كانت كل منهما تذكر الأخرى بالحكمة التي تقول “في البداية عندما تتلقى الضربة الأولى يجب أن تفكر في أن الأمر لن يستغرق دقيقة واحدة وينتهي الأمر، أما لو فكرت في أنه سيمتد لزمن طويل فربما تفقد قدرتك على المقاومة”. موقف منحاز “حافة الديمقراطية” ليس من أفلام السرد “الموضوعي” المحايد، فهو فيلم منحاز، تتخذ مخرجته موقفا واضحا تعبر عنه، برفض الدكتاتورية. ورغم ما توجهه من انتقادات إلى لولا بسبب ما وقع فيه من أخطاء في الاعتماد على أعدائه التاريخيين وتبني الحلول الوسط، فهي ترفض التلاعب الذي استخدمه تحالف رجال الأعمال مع السياسيين من اليمين، للإطاحة بالتجربة الديمقراطية ولو باستخدام القانون، والهدف هو فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام الاحتكارات الأجنبية خاصة الأميركية، بعد التخلص من أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ بلاده، وجعله أمثولة بوضعه وراء القضبان. وفي لحظة ما خلال الفيلم تقول بيترا إن ما وقع بعد أن بدأت مظاهر الاشتباكات بين القوى المؤيدة للتغيير والقوى المعادية التي ترغب في إعادة الدكتاتورية، كما نرى بالصوت والصورة في مشاهد هائلة مصوّرة من زوايا متعددة أحيانا باستخدام الطائرات المروحية التي تطير فوق الساحات العامة في مدينة برازيليا، بدا أن هناك نقطة فاصلة، قسّمت الشعب إلى معسكرين، ولم يعد يبدو ممكنا كيف يمكن أن يجتمعا مجددا في المستقبل. تظل البرازيل على “حافة الديمقراطية”. هناك انتخابات وحكومة منتخبة ورئيس منتخب، لكن الطبقة المتميزة هي التي تقبض على مقاليد الأمور، يعبر عنها رئيس لا يتورّع عن التهديد بالعنف. أليس هذا نفسه ما نراه في بلدان أخرى عديدة اليوم وإن اختلفت الأسباب؟!
مشاركة :