بتدشين وزارة الثقافة برنامج المحافظة على التراث الصناعي، وما لوحظ من تكامل بين الجهات الحكومية ذات العلاقة معها لإنجاح المبادرة.. تخطو المملكة نحو الريادة عربياً في تسجيل مواقع «التراث الصناعي» والمحافظة على التراث السعودي بكافة أنواعه، ودعم جوانب التعبير الثقافي المادية وغير المادية. وبما تمتلك المملكة من ثراء في جانب الصناعة النفطية وانعكاسات ذلك على التنمية ما يعطي مواقع التراث الصناعي حضوراً لافتاً في حال توثيقها.. «الرياض» ناقشت مع عدد من المختصين والباحثين أهمية حفظ هذه المنشآت التراثية وطرحت عليهم هذه التساؤلات: كيف يمكن تسويق المنشآت الصناعية كوجهات ثقافية وتعليمية وترفيهية؟ واستثمارها في ذلك؟ وما هي مساهمتها في تعزيز الاقتصاد الوطني والسياحة؟ وكيف يمكن استحضار النفط والغاز، ومناجم التعدين وتحلية المياه والطرق والنقل في بناء الهوية الوطنية؟ توجه صحيح أوضح الأستاذ الدكتور مشاري بن عبدالله النعيم- كاتب، ورئيس اللجنة الوطنية للايكوموس ICOMOS - أن التراث الصناعي يعد ضمن عصر "الحداثة" ومسألة تسجيل مواقع التراث الصناعي أمر جديد على جمعية التراث العالمي في اليونسكو حيث أصبح ما يعرف بـ"تراث الحداثة" Heritage of Modernity حقلاً معترفاً به في جمعية التراث لتوظيف التراث الضخم الذي خلفته الثورة الصناعية وتابعتها الحداثة في القرنين التاسع عشر والعشرين في مجالات معاصرة مع الإبقاء على الذاكرة المكانية والبصرية والاحتفاظ بحكاية المكان وبداية نشوئه. مشيراً إلى أن هذا التوجه الذي تتبناه وزارة الثقافة حالياً يعد توجهاً مهماً، حيث إن تراث الحداثة بشكل عام والتراث الصناعي بشكل خاص آخذ في التراجع والاختفاء وتسليط الضوء عليه من قبل الوزارة وتحويله إلى برنامج عملي مهني اقتصادي ومن ثم برنامج عمراني وثقافي سيتيح الفرصة أولاً للتعرف على بدايات النهضة الصناعية في بلادنا وسيجعل من تلك المواقع التي لم تعد تعمل أو توقف العمل فيها نظراً لتطور التقنية أماكن للزيارة ستزيد من تنوع الفضاء السياحي والثقافي وهذا دون شك فيه تحقيق لأمرين مهمين أولاهما خلق محطات سياحية جديدة ستؤثر حتماً على تغير المحيط المكاني حولها وستكون رافداً للاقتصاد الوطني وثانيهما هو المحافظة على ذاكرة المكان التي هي جزء من الذاكرة الوطنية المعاصرة. مخزون كبير وكشف الأستاذ الدكتور طلال بن محمد الشعبان - أستاذ العمارة الإسلامية بكلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود-، عن أن هناك مخزوناً كبيراً للتراث الصناعي في مجالات الزراعة والري التي تشمل البرك والخزانات الخاصة بتخزين المياه سواء لأغراض الري والزراعة أو لتوفير ماء الشرب للمسافرين ودوابهم، ولدى المملكة في هذا المجال ميراث كبير لا يزال قائماً على امتداد طرق الحج وفي المناطق الزراعية بكل أرجاء المملكة. ومن هنا يرى الشعبان إمكانية استثمار ذلك سياحياً بعمل زيارات لما يمكن صيانته وتشغليه من تلك المواقع وإنشاء استراحات ومطاعم على مقربة منها لبيان كيف كان نمط الحياة قديماً ويتصل بذلك المنشآت الصناعية لأغراض زراعية وخاصة فيما يتعلق بالتمور وتخزينها. وأوضح أن هناك تراثاً صناعياً في مجالات الإنتاج يتضمن الحرف اليدوية والتقليدية حيث مازالت بعض الورش قائمة لليوم لإنتاج أدوات الاستخدام اليومي سواء لأغراض إنتاجية أو للاستخدامات المنزلية مثل ورش النجارة والحدادة وصناعة الخزف، إضافة إلى أماكن التعدين. وفي المملكة عدد كبير من مواقع المناجم القديمة التي كانت مزدهرة وهذه يمكن إحياء استخدام بعضها أو عمل "سيناريو" يحاكي الواقع لخطوات العمل في تلك المناجم والأدوات المختلفة التي كانت تستخدم فيها وتنظيم زيارات ميدانية لتلك المناجم القديمة سيكون مفيداً سواء للسياحة الداخلية والتعليمية، وكذلك للسياحة الخارجية، وضمن هذا المحور يمكن أيضاً الاستفادة من محطات تحلية المياه القديمة لما تمثله من مرحلة مهمة من مراحل التطور الصناعي، كما يجب أيضاً الاهتمام بالمنشآت البترولية الأولى والرائدة مثل أقدم آبار النفط المكتشفة بالمملكة ومحطات التكرير. مشيرًا إلى أنهُ من الضروري الشروع في بناء تصور متكامل لمتحف "متحف النفط" يخصص لاستعراض تطور استخراج وتكرير النفط بالمملكة ليضم الماكينات القديمة سواء بذاتها أو نماذج منها مع عرض نماذج من المنتجات بعبواتها القديمة وصولاً لأحدث ما يستخدم من آلات أو ينتج من مشتقات النفط. تأهيل مختص من جانبه أوضح عبدالإله الفارس- رئيس العناية بالتراث الوطني بمنطقة تبوك - أن هناك معالم صناعية تراثية وحضارية عديدة ترتبط بجغرافيا المكان هجرت منذ عقود من الزمان، ورغم ذلك فإنها ظلت شاهدة على إرث حضاري وملامح حضارة كبرى، مشيراً إلى أن المملكة جسدت أهمية هذا التاريخ والتراث الصناعي المهجور في المدن والرمال والصحاري في بعض المناطق، بإعلان مثل هذا البرنامج الذي يهتم بهذه الفترة الصناعية الهائلة. ويرى الفارس أن إمكانية تسويقها كوجهات ثقافية وتعليمية وترفيهية واستثمارها يبدأ أولاً بالمحافظة والاهتمام بتسجيل تلك المعالم ومواقع التراث الصناعي على قائمة التراث العالمي كوجهات ثقافية عالمية بهدف استثمارها كوجهات ترفيهية وتعليمية لتصبح أماكن ثقافية ومن ثم تسويقها للعالم، حيث يأتي الاهتمام في حفظ "التراث الصناعي" دليل قطعي أمام العالم على نجاحها الاقتصادي، ومنح الفرص الاستثمارية للعالم بما يناسبها ويليق بمكانتها التاريخية. مؤكداً على أن تطور المنشآت التراثية في المملكة له أهمية بقدر أهمية المواقع التاريخية للحضارات، والتي تعكس مستويات النمو الحضاري المرافق للنمو البشري، فكافة الصناعات بدأت يدوية يستخدمها الإنسان لقضاء احتياجاته وتسهيل سبل العيش، ثم تطورت مع توافر الأدوات المساعدة .فمثلاٌ. تطور "الرحى" من الصناعة الحجرية لطحن الحبوب حتى إنشاء المصانع والصوامع للغلال، وتعيين جهات رسمية مخصصة للعمل بها، وأكمل: ومع انطلاق برنامج "التراث الصناعي" ستوثق لأول مرة عالمياً هوية الصناعات بالدلائل والشواهد، بما يناسب المتلقي من الأجيال القادمة، لحفظ التاريخ واستثماره كقاعدة تبَّني الحضارات نحو العالمية، في كافة المجالات السياحية والثقافية والفنية والإعلامية والترفيهية، من خلال إطلاق أول مسابقة وطنية للتعريف بـ"التراث الصناعي" وتوثيقه، ويكون دور الإعداد الحِرفيِّ من خلال معاهد مخصصة تحت رعاية وزارة الثقافة يحمل هوية البرنامج لتخريج دفعات مثقفة قادرة على تمثيل التاريخ الحضاري بمجمله؛ ضماناً للديمومة في خطى ثابتة مستقبلاً وحفاظاً على التطلعات الحالية. كما ذكر أن تعزيز الهوية الوطنية الاقتصادية للتراث الوطني السياحي هو أن نسهم في التوعية بقيمة هذه المعالم الحضارية من خلال تنظيم ورش عمل وحملات توعوية، بالتعاون مع الجهات الصناعية، إضافة إلى صيانة المعالم البارزة للتراث الصناعي وتوثيقها وتعزيز حضورها عالمياً، وتأهيل الكوادر الوطنية المهتمة بالتراث الثقافي الصناعي بالتعاون مع أهم الجامعات العالمية المختصة بهذا الجانب. أولوية مهمة وترى الدكتورة مها السنان - مستشار في التراث والفنون-: أن مسألة المحافظة على التراث مسألة مهمة جداً، وتعد من أولويات الدول المتحضرة، خصوصاً تلك التي تملك رصيد عميق من التراث الثقافي الممتد آلاف السنوات. وأضافت أن المملكة العربية السعودية وخلال أقل من قرن استطاعت أن تقف كدولة متحضرة بعد الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبدأت في وضع خطط متنوعة للمحافظة على إرثها الثقافي، واستطاعت من خلال منصات متعددة منها اليونسكو تسجيل مواقع التراث العالمي أو عناصر التراث الغير المادي. مشيرة إلى أننا اليوم نشهد نقلة جديدة وصفحة متجددة من العناية بعنصر وجانب آخر من تراثنا الحضاري إلا وهو الجانب الصناعي، كعنصر ذي قيمة مضافة تساهم في تأصيل تراثنا وهويتنا وبالتالي تشكيل صورة متكاملة عن وطن يحافظ على هويته. مواقع محفزة من جانبه قال الكاتب والمحلل الاقتصادي عبدالرحمن أحمد الجبيري: بأن منظومة التراث الصناعي أحد أهم المرتكزات السياحية والاقتصادية القادمة وذلك لما تتمتع به المملكة من مقومات ومواقع تجعلها في مراكز متقدمة على هذه الخارطة مشيرًا إلى إن ذلك سيسهم في صناعة بعد اقتصادي جديد ومهم يعكس الصورة التاريخية لهذا القطاع وإنه أيضاً سيؤشر عند استضافة المملكة لقمة مجموعة العشرين العام القادم إلى إبراز الصورة الصناعية وتاريخها الممتد عبر الأجيال للعالم والتأكيد على عمق ومكانة المملكة التاريخية والحضارية وبالتالي سيكون قيمة مضافة لبقية المكونات السياحية والاقتصادية، ولفت إلى إن هذا القطاع يحظى باهتمام عالمي ويتصدر خارطة الجذب السياحي في العالم ولذلك نجد أن الكثير من دول العالم اهتمت بمواقعها التاريخية في هذه الصناعة فنجد مناجم الذهب والفحم والجسور والمصانع القديمة وربط تلك المواقع بسلسلة غير مادية مثل المعلومات والبيانات التاريخية حولها لتكون أحد أهم الوجهات السياحية بتلك الدول، ولذلك المملكة تزخر بالعديد من المواقع المحفزة ومنها محطات تحلية المياه القديمة ومصانع تكرير النفط ومناجم التعدين ومصانع الأسمنت وغيرها والتي ستسهم في الدفع قدما بهذه الصناعة التراثية إلى الإمام. وأضاف الجبيري: هذه المنظومة ستعزز من الأداء الاستثماري وفتح مجالات جديدة أمام القطاع الخاص والمستثمرين وخلق وتأهيل الموارد البشرية المهتمة بالتراث الصناعي، حيث ستتشكل معه حزمة متنوعة من الوظائف وأيضاً استثمارات متعددة سواء كانت تلك التي تعد من الاستثمارات مباشرة في ذات المجال أو غير مباشرة بدعم وخدمة هذا المجال من جوانب مصاحبة له وتحفيز محتوى الاقتصاد الإبداعي والمنشآت الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال والأسر المنتجة إضافة إلى إعادة تأهيل المنشآت الصناعية والمواقع المتعددة للقيام بدورها في التنمية الاقتصادية والسياحية، مؤكداً على أن ذلك سيسهم في تنوع قاعدة الاقتصاد وبالتالي نمو في معدلات الناتج المحلي الإجمالي كما أنه من الاقتصاديات المُستدامة. توثيق مستحق ويرى أحمد الشهري - كاتب اقتصادي - أن التراث الصناعي جزء من تاريخنا الاقتصادي الوطني، فلكل دولة تاريخ اقتصادي يجمع أبرز السياسات الاقتصادية والنقدية والتجارية لفترة أو حقبة معينة إلا أن التراث الصناعي يعد منظوراً مهماً في مسيرة أي اقتصاد ولا سيما في دولة مثل المملكة العربية السعودية من منطلق ثقلها العالمي في مسائل الطاقة وإنتاج النفط وما سجله التاريخ منذ زمن الحقل الثامن الأشهر في تاريخنا النفطي، كما أشار إلى أن المملكة من أكبر منتجي المياه المحلاة في العالم عن طريق مصانع المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، بالإضافة إلى أن اقتصادنا يمتلك سلسلة من مصانع ومعامل النفط والبتروكيماويات والحديد وغيرها من الصناعات التحويلية والتعدينية وأعتقد أن منظومة الصناعة السعودية تمتلك تراثاً صناعياً يستحق التوثيق واستغلاله في مسائل السياحة والإعلام بتاريخنا الاقتصادي الصناعي. النعيم: جزء من الذاكرة الوطنية المعاصرة الشعبان: نتطلع لإنشاء «متحف النفط» الفارس: المعاهد المختصة تضمن ديمومتها السنان: قيمة مضافة لتأصيل الهوية الجبيري: قطاع يحظى باهتمام عالمي الشهري: منظور مهـــم الاقـتــــصاد
مشاركة :