مرت البشرية خلال تطورها المدني، بمحاولات عدة لتحقق عدالة توزيع الثروات في المجتمع. فمن المزدكية المجوسية الاشتراكية التي تنادي بتشارك أفراد المجتمع لكل شيء، إلى الإقطاعية الإمبراطورية التي تجعل الحاكم مالكاً لكل شيء، ثم يكون هو الواهب لبعض النبلاء والقادة. والمجتمعات الاقتصادية إلى ما قبل قرنين من الزمن كانت كلها في معظمها اقتصاديات دخل/ تأجير تقوم على الزراعة والرعي وما يلحق بهما من تجارة وغزو. والإقطاعية هي سمة غالب اقتصاديات العالم القديم، وقد جاء الإسلام ليتعامل مع النظام الإقطاعي القائم بإقراره، ولكن بأحكام معاملات وسطية. فالإسلام لم يتصادم مع الإقطاعية، بل هذبها.. فقد كان الاقتصاد في الزمن النبوي، وما بعده لقرون طويلة، اقتصاداً بسيطاً قائماً على الديناميكية الإقطاعية. ولذا جاءت ألفاظ النصوص التشريعية موافقة لما يعرفه الناس ويفهمونه، بينما حملت في مضمونها الإعجازي القواعد التشريعية المناسبة للاقتصاد الحديث، والتي هي منصوص عليها تصريحاً أو تضميناً في نصوص الوحي وتطبيقاته النبوية. -هذا الفهم لا يتأتى إلا إذا ما اتُبعت الأصول الاستنباطية المنطقية التي خلق الله الإنسان قادراً على إدراك منطقيتها-. فالزكاة على سبيل المثال، كانت هي حد الكمال المناسب لعصر النبوة وقرون عديدة بعده؛ لأنها تكفي حد الكفاف الذي كان هو حد الكمال للغالبية العظمى من الناس، تحت ظل الاقتصاد الإقطاعي المهيمن آنذاك على العالم إلى ما قبل الثورة الصناعية. وأما اليوم، فالاقتصاد قائم على الديناميكية الصناعية، ومع ذلك لم تفقد الزكاة مهمتها ودورها، فهي ما تزال تكفي حد الكفاف. إلا أن حد الكفاف لم يعد هو حد الكمال المطلوب تحت ظل الاقتصاد الصناعي. وبرغم اختلاف النظام الإنتاجي الذي يعتبر أساس ديناميكية الاقتصاد، كالمخ بالنسبة للإنسان، إلا أن الزكاة ما زالت قادرة على تغطية كثير من المهام التنظيمية للاقتصاد الصناعي الحديث، الذي يساهم، مع الإجراءات الاقتصادية الحديثة، في الوصول بالاقتصاد إلى التوزيع العادل للثروات. (ويجب أن نفهم أن حد العدالة الاقتصادية هو: ما يعود على المجتمع بأعلى إنتاجية بأقل كلفة). فالتوزيع العادل للثروات هو الأساس الذي خلق الله السوق عليه بحسب نظامه الإنتاجي، كالزكاة في الاقتصاد الإقطاعي القديم، وكالطبقة الوسطى في الاقتصاد الصناعي الحديث. فالنصوص التشريعية جاءت لتعلم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيفية التعامل مع خِلقة الله للسوق، ولتنهاهم عن الخروج عنها؛ من أجل أن يتحقق لهم التوزيع العادل للثروات. والتوزيع العادل لا يعني المساواة الصورية في ملكية وحجم الثروة، ولكن العدالة في استهلاكها. فقد تفاوت أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبلهم في الغنى والفقر. فمنهم الغني الواسع الغنى ومنهم الفقير المدقع، قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). وعلى هذا النسق؛ خَلَق الله السوق، كما خلق الخير والشر والموت والحياة.
مشاركة :