عادة ما يتم اختيار يوم العيد الوطني للدولة، أي دولة، بعناية، ليعبر عن نقلة فارقة في مسيرة الوطن صوب تحقيق مصالحه العليا، وتطلعات الشعب. على هذا النحو يمكن أن نقرأ احتفال فرنسا بعيدها الوطني في 14 تموز (يوليو) من كل عام، منذ العام 1880 في ظل الجمهورية الثالثة. ويعبر هذا التاريخ عن حدثين متعاقبين الأول: انطلاق شرارة الثورة الفرنسية في عام 1789 ضد مجتمع الامتيازات الظالم باقتحام وإسقاط "سجن الباستيل" كرمز للطغيان والملكية المطلقة ذات السلطة المقدسة التي مثلها خصوصاً لويس الرابع عشر والخامس عشر. والثاني: العام 1790 تاريخ الاحتفال بالذكرى الأولى لسقوط "الباستيل" والذي شهده الملك لويس السادس عشر في أجواء من الوحدة الوطنية. يذكر أن السجن الشهير أُنشيء بين الأعوام 1370 و1383 كحصن للدفاع عن باريس؛ ومن ثم كسجن للمعارضين السياسيين والدينيين والمحرضين ضد الدولة. وفي ظل أزمة اقتصادية حادة وتوترات سياسية أدت إلى تكاثر المرتزقة وقطاع الطرق في ضواحي العاصمة باريس. ولارتباط السجن المذكور بالقهر والاضطهاد اتجهت حشود الثوار الباريسيين إليه، ليكون منطلقها الأول صوب ثورتها الفريدة التي عُدت أهم الثورات الشعبية قاطبة، وأكثرها أثراً في الفكر الإنساني عامة. وامتدت الثورة من العام 1789 حتى 1799، وانتهت بسيطرة البورجوازية المتحالفة مع العمال، وإقرار مجموعة من الحقوق والحريات للطبقة العاملة والمتوسطة من الشعب الفرنسي، مستوحية أفكاراً ليبيرالية وراديكالية غيرت بشدة مسار التاريخ الحديث، إذ كانت سبباً مباشراً في تحول الملكيات المطلقة إلي جمهوريات، لذلك يصفها المؤرخون بأنها واحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية. وبطابع خاص حمله تزامنها مع الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، تأتي احتفالات فرنسا بعيدها الوطني هذا العام تحت شعار أثير لرئيسها الشاب إيمانويل ماكرون وهو: "التعاون العسكري الأوروبي"، الذي يشكل مرتكزاً أساسياً في سياساته، وهو ما مثل فارقاً رئيساً بينه وبين منافسته في انتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة، اليمينية المتطرفة الشعبوية مارين لوبان، التي هزمها ماكرون بجدارة في الجولة الثانية التي أجريت في السابع من آيار (مايو) 2017، بنسبة كبيرة بلغت 66 في المئة. ومعروف أن ماكرون من أشد مؤيدي الكتلة الأوروبية؛ ومن ثم ففي مواجهة الـ "بريكست"، وتراجع العلاقات عبر الأطلسي في عهد ترامب، يؤكد الرئيس الفرنسي أهمية تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية إلى جانب "حلف شمال الأطلسي". يعبر عن ذلك قوله في مناسبة الاحتفال بالعيد الوطني لبلاده: "لم تكن أوروبا يوماً ضرورية إلى هذه الدرجة منذ الحرب العالمية الثانية. بناء أوروبا دفاعية على صلة بحلف شمال الأطلسي الذي سنحتفل بالذكرى السبعين لتأسيسه يشكل أولوية لفرنسا". وتعبيراً عن ذلك، شارك في العرض العسكري إلى جانب فرنسا، شركاء المبادرة الأوروبية التي أطلقها ماكرون قبل عام بهدف تطوير "ثقافة استراتيجية مشتركة"، تسع دول أوروبية هي: بلجيكا وبريطانيا وألمانيا والدنمارك وهولندا وإستونيا وإسبانيا والبرتغال وفنلندا. وهي المبادرة التي تنص على إجراءات مشتركة من جانب فرنسا وعشر دول أخرى في حالة الأزمات العسكرية والإنسانية الطارئة. وبالفعل، كان ممثلوهم هم الذين افتتحوا العرض العسكري حاملين شعاراتهم العسكرية. وعلى طريقتهم، شارك أيضاً أصحاب "السترات الصفراء" في احتفالات فرنسا بالعيد الوطني، وقبل دقائق من بدء العرض المعتاد، الذي شهد مرور أربعة آلاف وثلاثمئة جندي عبر الشانزليزيه، بمشاركة 196 عربة مصفحة، ظللتها 69 طائرة حلقت في السماء، و39 مروحية، بمشاركة رمزية من بعض الجيوش الأوروبية، ردد العديد من الحضور شعارات "السترات الصفراء" الداعية إلي استقالة ماكرون، الذي ما إن ظهر في العرض الذي شهده الشهير حتى أطلقت الحشود "الصفراء" صفيراً هائلاً ميز الاحتفال الوطني، ما أدى إلى مشاركة واسعة أيضاً من قوات الشرطة استمرت إلى ما بعد انتهاء العرض العسكري. وكان الحضور رمزاً لمبادرة ماكرون "التعاون العسكري الأوروبي"، ولفكرة الكتلة الأوروبية، إذ غابت تريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا المستقيلة التي أرسلت ممثلاً لها، بينما جلس على المنصة إلى جانب ماكرون قادة مجموعة من الدول الأوروبية، ومنهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفنلندي سولي نييني، وممثل "الحلف الأطلسي" أمينه العام ينس ستولتنبرغ، إلى جانب رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر. وعلى هذا النحو، وفي مقابل احتفال العام الماضي الذي أقيم عشية فوز فرنسا بكأس العالم لكرة القدم التي أُقيمت في موسكو، عبر احتفال العام الحالي عن أوضاع الداخل الفرنسي، برمزية حضور أصحاب "السترات الصفراء"، مثلما عبر عن تحديات الخارج التي تواجه الكتلة الأوروبية في ظل سياسات ترامب والـ "بريكست".
مشاركة :