استلهم المعرض التشكيلي الجماعي “من وحي مصر” الذي شهدته القاهرة مؤخرا روح الأمكنة العريقة والبريئة مستكشفا من خلالها حوارات التاريخ والجغرافيا والبشر بأعمال تصويرية ونحتية اتسمت بالجدّة وأبحرت بطلاقة في الموروث الحضاري والشعبي. في إمكان الألوان والتكوينات المجسّمة أن تتحسس “شخصية مصر” بمقوّماتها المتعددة الظاهرة والكامنة وعناصرها البشرية والتاريخية والجغرافية والمزاجية والفنية المتنوعة، فالتشكيل لا يكتفي بأبعاد الواقع الراهن بقدر ما ينشغل بالغوص في الأعماق الإنسانية وهضم خصوصية المشهد بجذوره وطبقاته العميقة الضاربة في الزمن وتفاعلاته المعقدّة مع حركة الحياة والأحداث وتوجهاته الآنية والمستقبلية في خارطة الوجود. ومن هذه الفلسفة، انطلق المعرض الجماعي في مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة على مدار شهر مايو، محتضنا تجارب ثرية خصبة لمصوّرين ونحاتين من أجيال وتيارات مختلفة، التقوا على استيحاء مصر كقبلة توجهوا إليها بأبصارهم وبصائرهم واستقوا خيالاتهم من منابعها المتدفقة. “من وحي مصر”، عنوان عريض لثيمة عامة شكلت ملتقى للألوان الحرة والتشكيلات الانسيابية في معرض جماعي انبنى على فكرة إعادة صياغة الموروث الشعبي والحضاري بروح جديدة نابضة، بهدف الوصول إلى استكشاف شخصية مصر بأناسها وبيوتها وترابها وعناصر قوتها ووهجها الروحي وما تبقى من حضارتها وما انطمس، من خلال مجموعة متميزة من أعمال التصوير والنحت والسرد البصري المرتكزة على فيوضات الطبيعة الأم وخاماتها الطيّعة.تضمّن المعرض، الذي نظّمته الهيئة العامة لقصور الثقافة، إبداعات ثلاثة مراسم متنوعة، هي: “حكاوي نخلة”، من أجواء واحة الخارجة بالوادي الجديد في صحراء مصر الغربية، بمشاركة عشرة فنانين، و”النوبة”، من طقوس بلاد النوبة في أقصى جنوب مصر، بمشاركة خمسة عشر فنانا، و”هضبة باريس”، من فضاءات هضبة باريس بالوادي الجديد، بمشاركة عشرين فنانا. تنوعت أعمال المعرض الزاخم بين بورتريهات الوجوه المصرية الصميمة، للرجال والنساء والأطفال، ومشاهد الحياة وتفاصيلها اليومية في البيوت الطينية والحجرية والأسواق التقليدية والشوارع والساحات، وتشكلات الطبيعة وكائناتها وأشجارها وتفجراتها وأسرارها اللانهائية، واتسمت الأعمال بذاكرة غنية لاقطة، وقدرة على التجسيد والحكي والتعبير الحركي، بالإضـافة إلى توسيع الرؤيـة وتعميقـها من خلال الرموز والتجريد. إذا كانت الطبيعة هي أم الإنسانية الرؤوم، فإن النخلة هي أم الطبيعة والإنسانية والحضارات والفنون، وأم الأمهات جميعا، فهي شجرة ولود، ذات طبيعة خاصة في نموها وتكاثرها.ولا يمكن حصر مجالات الاستفادة منها من مأكل ومشرب وظل وحطب وخشب بالإضافة إلى الاستعمالات الواسعة لنواة البلح، فهي شجرة الأساطير وحارسة الخلود وقرينة الخميرة الآدمية النقية. في أعمالهم المجسّمة والنحتية، تفاعل فنانو “حكاوي نخلة”، ومنهم أحمد صالح وأسامة القاضي ومعاوية هلال وغيرهم، مع النخلة بوصفها إنسانا مكتملا، وهي أنثى في معظم الأحوال، ولود مثمرة خصيبة، معطاءة وحكّاءة، تنفتح قصصها على ما لا يندثر من قيم راسخة نبيلة، ووجوه للخير لا حصر لها. تعاطى الفنانون مع الخامات الطبيعية من أخشاب وسعف ونوى، وهي خامات لها قدرة فائقة على التطويع والانسيابية، بالإضافة إلى أنها تبدو كما لو أنها تستشعر، وتنبض، وتقيم علاقات تبادلية (في الاتجاهين) مع البشر من عشاقها وأصدقائها وجلسائها. من خلال الوجوه المنحوتة بعناية من خشب النخيل، فتح فنانو “حكاوي نخلة” نوافذ مضيئة للإطلال على التركيبة البشرية المصرية عبر العصور، منذ العهد الفرعوني ومراكب الشمس، حتى يومنا هذا. قدّم فنانو مراسم “النوبة” و”هضبة باريس” في المعرض أطروحاتهم الخاصة حول خرائط الأمكنة والبشر في الجنوب المصري والوادي الجديد، من خلال أعمال تصويرية، تعبيرية وتجريدية، للفنانين إيمان قدري وأحمد صالح ومرفت شاذلي وأحمد عباس ونجاة فاروق والمأمون سيد وعمر سنادة، وغيرهم.عكست اللوحات ملامح الحياة الكائنة في الوقت الحالي في الحقول والبيوت الطينية والحجرية، والأسواق، والورش الحرفية، وقوارب الصيد، وغيرها، ورسمت بانوراما شاملة للطقوس والمناسبات الاجتماعية والممارسات اليومية، خصوصا في الاحتفالات والمراسم، مثل الزواج والميلاد وسبوع الطفل والأعياد الدينية مثل حلقات الذكر في ليالي رمضان والمولد النبوي. اختط الفنانون ببراعة قسمات الوجوه المصرية الشعبية الأصيلة، للكبار والصغار على السواء، في حالات متباينة من السعادة والحزن، والتهلل والوجوم، بما شكل بوصلة أمينة للنفاذ من خلال الملامح الظاهرية إلى الشخصية المصرية ومزاجها الحاد المتقلب، وقدرتها على التجدد والتغير والصمود والتحدي والمقاومة ومواجهة الصعاب بصلابة الصخور ودفء الأمل. امتلأت اللوحات بالكثير من النقوش والتصاوير الرامزة إلى الموروث الشعبي في الجنوب والوادي، ومفردات الحضارة النوبية القديمة الغارقة، وتوهجت الأعمال بصخب الألوان وسحر الذهب واللآلئ والحلي والطقوس الزاهية المعبرة عن حب البشر للحياة وتفننهم في نثر ورود البهجة والاستمتاع بجماليات الطبيعة الصافية. جاءت فكرة العودة أو حلم الرجوع إلى الأرض من بين السمات المميزة للوحات مبدعي الجنوب والوادي، حيث يظل النوبي كذلك البدوي مهما طالت رحلاته وامتدت تنقلاته في الربوع المصرية مشتاقا إلى موطنه الأصلي وبيئته الأولى، حيث وجدانه الحي وذاكرته البصرية ومعينه الفني الذي لا ينضب.
مشاركة :