مع تواصل حالة عدم اليقين بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تتزايد التكهنات المقلقة بشأن مستقبل البلاد الاقتصادي وسعر صرف الجنيه الاسترليني، واحتمال تراجعه على الأمد الطويل، إذا لم تتوصل المملكة المتحدة إلى اتفاق مع الأوروبيين بشأن العلاقة المستقبلية بين الطرفين بعد "بريكست". وسط تلك الأوضاع المضطربة يتزايد القلق من أن يتخلف الاقتصاد البريطاني، الذي يحتل المرتبة الخامسة في ترتيب الاقتصادات في العالم، عن منافسيه الدوليين خاصة الألمان، في ظل تراجع الاستثمارات بوتيرة متسارعة، تفوق في سرعة تراجعها ما حدث خلال الأزمة المالية عام 2008. وتتفاوت التقديرات حاليا بشأن نسبة تقلص الاستثمارات في الاقتصاد البريطاني، مع هذا يظل مؤكدا أن تراجعها ملموس. هذا، وقدر اتحاد الصناعة البريطاني نسبة التراجع بـ1.3 في المائة، إذا ما حدث خروج منظم من الاتحاد، وسيتطلب الأمر عاما على الأقل حتى يعود الاستثمار إلى النمو، وإن حدث ذلك فسيكون بنسبة طفيفة لن تتجاوز 0.9 في المائة. وفي تقدير آخر من قبل مؤسسة "إي أيتم" يشير إلى انخفاض استثمارات الأعمال في العام المقبل بنسبة 1.6 في المائة، لكن المؤسسة أرجعت هذا في جزء منه إلى تباطؤ نمو الاقتصاد الدولي. الدكتورة ملينا جولد أستاذة الاقتصاد البريطاني تعتقد أن التراجع الراهن والمستقبلي في اقتصاد المملكة المتحدة، يعود إلى تشابك مجموعة من العوامل، بعضها يقع خارج نطاق سيطرة الاقتصاد البريطاني مثل المشهد السلبي لنمو الاقتصاد العالمي ككل. وأظهرت بيانات لمكتب الإحصاء الوطني البريطاني ارتفاع الدين العام البريطاني بنهاية حزيران (يونيو) الماضي إلى رقم قياسي بلغ أكثر من 1.818 تريليون جنيه استرليني. وأكدت البيانات أن إجمالي الديون العامة ارتفع خلال الفترة بين يونيو 2018 ويونيو الماضي بنحو 27 مليار جنيه استرليني. وأوضحت أنه على الرغم من ارتفاع القيمة الكمية لديون الدولة غير أنه مقارنة بإجمالي الدخل السنوي للبلاد تكون الديون قد انخفضت بنسبة 1.5 في المائة لتبلغ نسبة 83.1 في المائة. وأشارت البيانات إلى أن الاقتراض الحكومي خلال العام المالي الأخير الممتد بين أبريل 2018 ومارس الماضي بلغ 23.5 مليار جنيه، مضيفة أن "الاقتراض تراجع بقيمة 18.3 مليار جنيه استرليني مقارنة بالعام المالي الذي سبقه". وذكرت أن الاقتراض الحكومي انخفض بذلك إلى أدنى قيمة تسجل منذ عام 2002 على الرغم من أن الاقتراض وصل الشهر الماضي إلى أعلى مستوى شهري منذ يونيو عام 2015. وتقول لـ"الاقتصادية"، "لا شك أن الهزة الحالية للاقتصاد البريطاني تعود في جزء منها إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن لا يجب أن نقلل من شأن تراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي ككل، خاصة في معظم البلدان الرأسمالية عالية النمو، وتأثيرها في الاقتصاد البريطاني". وتضيف "حتى إن لم يصوت الشعب البريطاني لمصلحة الخروج من النادي الأوروبي، فإن اقتصاد المملكة المتحدة كان سيعاني أيضا اقتصاديا، الخروج من الاتحاد الأوروبي زاد الطين بلة، لكنه لم يوجد بمفرده الوضع الاقتصادي السلبي". وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد البريطاني انكمش بنسبة 0.2 في المائة خلال الربع الثاني من هذا العام، إلا أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وفقا لتصريحات جيرمي هانت وزير الخارجية البريطاني الذي ينافس على زعامة حزب المحافظين ومن ثم منصب رئاسة الوزراء، فإن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيفجر أزمة اقتصادية توازي في ضراوتها الأزمة الاقتصادية لعام 2008، التي أدت إلى الركود وإضافة نحو 2.7 مليون شخص إلى قائمة العاطلين عن العمل في بريطانيا. ويقول لـ"الاقتصادية" توماس دين المختص الاستثماري، "الآلية الرئيسة للركود المقبل ستكون نتيجة الوضع المتدهور للاسترليني، فالعملة البريطانية ستكون عرضة لتراجع كبير للغاية إثر الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسيتواكب هذا الانخفاض مع ارتفاع في معدلات التضخم، ومن ثم ستتعرض الأجور الحقيقية للانخفاض، وهو ما يعني تراجع معدلات الاستهلاك العام، وبالتالي النمو الاقتصادي، كما أن معدلات الاستدانة من الخارج سترتفع، نتيجة تقلص عائدات الضرائب، جراء انخفاض النمو والاستهلاك وزيادة الإنفاق الحكومي لتقليص الاحتقان الشعبي نتيجة الأزمة الاقتصادية". وكانت وكالة موديز للتصنيف الائتماني قد أشارت في تقرير لها، إلى أن ترك بريطانيا الاتحاد الأوروبي سيؤثر في الناتج المحلي الإجمالي بصور سلبية تراوح بين 6.3 و10.7 في المائة على مدار الـ15 عاما المقبلة. مع هذا لا يزال عديد من الاقتصاديين ومن بينهم الدكتور جيفري آدمز أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة شيفيلد يدافع عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن التداعيات الاقتصادية السلبية لن تتجاوز ثلاثة أو خمسة أعوام، وبعدها سينهض الاقتصاد البريطاني ويحقق معدلات نمو مرتفعة. ويقول لـ"الاقتصادية"، "الأزمة الاقتصادية التي نمر بها أزمة قصيرة الأمد، وأقل مما تعرضنا له نتيجة الأزمة المالية لعام 2008، التي تواصل آثارها ضرب الاقتصاد البريطاني حتى الآن. فالركود الاقتصادي وتراجع قيمة الاسترليني تعني على الأمد الطويل انخفاض قيمة الأصول البريطانية، سواء العقارات أو السلع والخدمات، وهو ما يؤدي إلى تدفق رؤوس الأموال الدولية على الاقتصاد البريطاني، ليس ككل إنما على بعض القطاعات التي ستمثل رأس الحربة في عملية النهوض المقبل". ويضيف "علينا أن نتذكر أن المؤشرات الاقتصادية السلبية الحالية، تعود جزئيا إلى قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي هذا صحيح نسبيا، لكنها تعود أكثر إلى حالة الارتباك في تنفيذ عملية الخروج، والأهم إلى عدم اليقين المحيط بتلك العملية، وبمجرد حسم الأمر في نهاية أكتوبر المقبل سيختلف المشهد، وستتلاشى سلبيات عدم اليقين، فالقدرة الإنتاجية لبريطانيا تراجعت نتيجة ضعف الاستثمارات التي تنتظر جلاء الموقف". ويؤكد أن قضايا أخرى مثل الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة، والأوضاع غير المستقرة في منطقة الشرق الأوسط، واحتمالات تفجر نزاع عسكري عنيف ومسلح بين الهند وباكستان، جميعها عوامل ذات تأثيرات أكثر أهمية للآفاق الاقتصادية من الخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن تلك الرؤية تناقض عددا من التقارير الاقتصادية الرسمية التي تحمل الخروج من الاتحاد الأوروبي مسؤولية تفاقم الوضع المالي في البلاد، وتقليص مساحات المبادرات الجديدة للتصدي للفقر، وتقلص هامش الرعاية الاجتماعية. الباحثة الاقتصادية هلين ريتشارد أحد الناشطين البارزين ضمن المجموعات الرافضة للخروج من الاتحاد الأوروبي، ترى أن فرصة إعادة ضبط الاقتصاد البريطاني، التي وعد بها أنصار الخروج من الاتحاد، تلاشت نتيجة الارتباك الذي أعقب التصويت لمصلحة الخروج. وتقول لـ"الاقتصادية"، "جوهر فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي هو أن مغادرتنا أوروبا ستمكننا من ضبط الأوضاع المختلة للاقتصاد البريطاني، لكن ما يتضح لنا الآن أن فرصة إصلاح الاقتصاد البريطاني عبر العمل بعيدا عن الاتحاد، وعبر مجموعة من الاتفاقيات التجارية الحرة مع الاقتصادات الرئيسة الأخرى لم تعد واقعية، فالركود الاقتصادي المتوقع يفاقم أزمة بريطانيا بجعلها تقف وحيدة في مواجهة التيارات والأمواج العاتية التي تضرب الاقتصاد العالمي، ومن ثم فإن الركود الاقتصادي في ظل تكلفة عالية محتملة من ضبط الحدود المغلقة للتصدي للهجرة وتقلص التجارة الخارجية، سيضعف الاقتصاد البريطاني". وتضيف "الأمر باختصار أزمة اقتصادية حقيقية ستضرب قطاعات رئيسة في الاقتصاد البريطاني مثل قطاع السيارات، ولن يكون في مقدور القدرة الإنتاجية المتاحة لدينا النهوض بمفردها بالاقتصاد الكلي، لنعود ونلتمس المساعدة من الأوروبيين ونحن في موقف أضعف".
مشاركة :