نحن عانينا أكثر منكم، وأنتم تستحقون ما يحصل لكم.. تختصر هذه الفكرة المباشرة والتبسيطية المزاج العام المسيطر في ظل الصدام الطائفي والإثني في أكثر من بلد في الشرق الأوسط، الذي انفجر في السنوات الأخيرة ويكاد يلتهم الجميع هذه الأيام. قد يكون الصدام عربيًّا - كرديًّا، أو سنيًّا - شيعيًّا، أو مسيحيًّا - مسلمًا، أو لبنانيًّا - سوريًّا، أو عربيًّا - إيرانيًّا، أو ما شئتم من اشتباكات لا تهدأ في هذا الشرق البائس. ما يصيب بالخيبة المضاعفة في وسط هذا الاشتعال الكبير هو انجراف شريحة واسعة ممن هم في المجال العام؛ من صحافيين وكتاب ومثقفين مفترضين، في عملية تبريرٍ وتبريرٍ مضاد، فيستحضرون ما تتعرض لهم جماعاتهم من قبل جماعة أخرى، مستعينين بمخاوف الطوائف والإثنيات، فيتلاعبون بها لتزخيم الاستقطاب ونيل رضا محيطهم وأهلهم وسلطتهم.. إنه ذلك الانحياز السهل الذي يضمن بقاءنا واستمرارنا وحمايتنا أيضًا. وخطاب التبرير الرائج، وإن كان في بعض وجوهه مظلومية ما، لكنه في السياق الحاصل ومع تجاهل حقائق أخرى مقابلة، بات يجسد ذروة صعود المشاعر الغرائزية للهويات التي نشأنا عليها. وتزخيم تلك المشاعر يزيد من صعوبة الراغبين في الخروج عن سياق الجماعة وتكوين قناعة خاصة والمجاهرة بها.. فنحن كأفراد نعيش في أوساطٍ تحد من حرياتنا الشخصية، وتحاول دائمًا ضبط خروجنا عن السياق العام، فيجري تذويب التمايز وإجهاض النقد؛ مراعاة لهوية الغالبية ولهواجسها، مقابل ذاك الشعور الواهم بالحماية والانتماء. وهنا لا يجد المتصدرون لحماية الجماعات والنطق باسمها حرجًا في اجتراح سرديات تبرر العنف والكراهية في سياق الدفاع عن مظلومية الأهل والعشيرة والطائفة. فكم انغمس إعلاميون ومثقفون وصحافيون وراء مشاعر التبرير ورفع المظلومية وتقديمها على أي معطى آخر.. لذلك، وفي لحظة صدام كالتي نعيشها، يضيع الفارق بين الأنظمة التي تضيق على حرية الأفراد بحجة الأمن ودحر المؤامرات، وبين الجماعات الدينية والآيديولوجية التي تُخون وتُسفه البعض بحجة ضلالهم ووسمهم بأنهم مرتبطون بجماعات خارجية. هنا يبدو خيارًا سهلاً وآمنًا ومربحًا أن ينحاز من هم في المجال العام إلى الجماعة، سواء أكانت هذه الجماعة طائفة أم حزبًا أم سلطة ما. لكن هذا الاستقطاب وتلك التبعية المطلقة تزيد من عمق الهوة التي نغرق بها.. نعم، يكاد يختفي التردد الذي يجب أن نشعر به حيال الانغماس في استنهاض غرائز الجماعات وتقديم سياق تبريري لمشاعر الانتقام من الآخر. بات مألوفًا أنه وبقدر ما تكون الظلامة فادحة، يكون خطاب التبرير للعنف المقابل أكثر حدة، وأكثر تنميقًا وتلاعبًا باللغة لحث المشاعر وكسبها. تلك حلقة لا يرغب المنغمسون بها إنهاء الظلامة قدر ما يسعون إلى تبرير ما يرتكب.. لذلك يبدو خيار رفض الاستسلام إلى الاستقطاب الحاصل وكأنه خيانة أو سذاجة في أحسن الأحوال.. إنه زمن «أنتم إما معنا أو ضدنا».. هذا تحد كبير يواجهنا كأفراد وسط هذا الصعود الكبير لقيم الجماعة وجنوحها.. حتمًا هو تحد صعب ومكلف، لكنه حتمي في سياق بحثنا عن مساحات تعبير حرة..
مشاركة :