اكتشف الموسيقار البريطاني الكبير بنجامين بريتن خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941 أثناء إقامته في الولايات المتحدة شاعرا جليلا طار صيته في القرن التاسع عشر يصف قريته الساحلية في إنجلترا، فألهمه تأليف مسرحية موسيقية حول مأساة صياد السمك بيتر غريمس. الغريب أن بريتن كتب موسيقى الأوبرا في مدينة سان دييغو بكاليفورنيا، واستمعنا الآن إلى مقاطع منها عزفتها أوركسترا لندن السيمفونية بقيادة المايسترو الأميركي المعروف مايكل تيلسون توماس. كان حفلا ضخما نظمته جمعية الموسيقى بضاحية لاهويا الراقية في سان دييغو، وأقيم في صالة العزف التقليدية لفرقة سان دييغو السيمفونية، وكان الحضور كثيفا لأن زيارة فرقة عالمية رائعة مثل أوركسترا لندن السيمفونية لا يتكرر كثيرا في هذه المدينة الجميلة المريحة البهيجة على ضفاف المحيط الهادي. قاد تيلسون توماس الفرقة البريطانية في جولتها الأميركية هذا الربيع، وهو قائد أميركي يدير أوركسترا سان فرانسيسكو بكاليفورنيا منذ 15 عاما كما أنه الضيف الرئيسي للفرقة البريطانية التي يرأسها زميله الروسي الشهير فاليري غيرغييف. وهو سليل عائلة فنية عريقة، وكانت له صلات واسعة مع الموسيقار الروسي إيغور سترافنسكي، وله أكثر من 120 تسجيلا لكبار مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية. تأسست أوركسترا لندن السيمفونية عام 1906 ولها النصيب الأكبر من تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الأفلام على الأسطوانات القديمة والمدمجة، وسيخلف رئيسها الدائم حاليا غرغييف عام 2017 المايسترو البريطاني المرموق سيمون راتل الذي يقود حاليا أهم أوركسترا في العالم، وهي أوركسترا برلين الفلهرمونية. ومن القادة البارزين الذين تسلموا قيادة أوركسترا لندن السيمفونية السير توماس بيتشام والسير كولين ديفيس والإيطالي كلاوديو أبادو والفرنسي بيير مونتو. مشى تيلسون توماس بخطى حثيثة نحو الظفر في الحفلة الأخيرة ولم يتبنَّ السرعة المفرطة في العزف كما كان مألوفا في الماضي، بل كبح جماح الأوركسترا، ولا سيما الأبواق والآلات النحاسية، وقدم لنا حفلا ممتعا بسرعة بطيئة، فبعض التسجيلات القديمة للسيمفونية الثانية للموسيقار الفنلندي يان سيبيليوس الحافلة بالرقصات الشعبية كانت تستغرق 39 دقيقة، بينما استغرقت قيادة تيلسون توماس نحو 49 دقيقة. كان الأداء بارعا ومؤثرا، فحاز الإعجاب والتصفيق الوفير. أما كونشرتو البيانو للموسيقار الأميركي جورج غيرشوين صاحب أغاني الجاز المعروفة في الثلاثينات فكان الركيزة للسرعة المطلوبة من الأوركسترا، لكن العازفة الصينية للبيانو يوجا وانغ افتقدت روح موسيقى الجاز المرنة رغم براعتها في العزف ومقدرتها التقنية الفائقة، وبدت كأنها تعزف بعفوية ودون جهد. فاجأتنا بأناقتها اللافتة للأنظار وثوبها الأخضر الحسن، وسمعت أن جمهور لوس أنجليس كان معجبا بثوبها الأحمر القرمزي هناك. أعطانا تيلسون توماس فكرة ناجحة عن كيفية مزج القطع الموسيقية المختلفة مع بعضها ببرنامج واحد في انسجام بديع. انسابت الموسيقى معه نابضة بالحياة وشديدة الحساسية، فشعرنا بالانطواء الذاتي، أحد ملامح موسيقى أوبرا بيتر غريمس وأسلوب بريتن الذي يستبطن الأفكار والمشاعر، كما تابعنا الروح المرحة النابضة بالحياة لموسيقى غيرشوين العذبة التي نجحت في خلط الجاز مع الموسيقى الكلاسيكية ببراعة ظاهرة، وكذلك الروح الوطنية لموسيقى سيبيليوس حين كانت بلاده تحت نوع من الحماية الروسية، فرغم حبه وتأثره بألحان الموسيقار الروسي تشايكوفسكي فإن الروح الفنلندية الحرة تطغى دوما في أنغام سيبيليوس لأنه كان ملتزما بقضية بلاده. أسلوب تيلسون توماس في القيادة ينم عن مقدرة وجزم في تفسير أفكار المؤلف دون أن يقحم نفسه في الموضوع، وإنما يشي بأنه فنان موثوق بخبرته وذوقه، جدير بالقبول لأنه تطور كثيرا في العقود الأخيرة وازدادت حنكته وتفتحت مواهبه بشكل كامل. قاد تيلسون توماس أوركسترا لندن السيمفونية فعلا إلى النصر في هذه الجولة؛ لأنه كان يمسك بزمامها بأحكام، وبإشارة بسيطة منه يكف مائة عازف عن العزف فجأة بانضباط عسكري، ثم يتابعون الألحان بشكل عاطفي هادئ يوحي بالتناقض بين القوة والنعومة، أما الجمهور فقد استحوذ عليه قائد الأوركسترا، فكان صامتا يتابع انسياب الألحان بشغف وترقب، ثم ينفجر بالتصفيق الحار. سمح هذا التجاوب والحماس لقائد الأوركسترا بعزف قطعة إضافية في آخر الحفل، وهذا ليس تقليدا مألوفا في حفلات الموسيقى الكلاسيكية فعزفت الأوركسترا رقصة هنغارية لبراهمز استدعت التصفيق القوي، لكن المايسترو أشار بعدها بيديه ورأسه أنه يبغي النوم، فكانت نهاية الحفل وبقينا في عالم يستمر فيه صدى الأنغام في رؤوسنا قبل أن نخلد إلى النوم بدورنا.
مشاركة :