"لماذا؟" عندما يحاسب بيتر بروك نفسه من خلال مسرحية

  • 7/22/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعتبر الإنكليزي بيتر بروك (وهو على مشارف الخامسة والتسعين من عمره) من أهم رجال المسرح في القرن العشرين، ورغم ذلك لا يقابل الناس إلاّ بمثل ما اعتاد أن يلقاهم به من تواضع، أشبه بتواضع حرفيّ تنحصر حياته في البحث الدائم عن المعنى والجوهر في كل عمل يقبل عليه. ورغم أنه أخرج سرودا مكثفة وعروضا ملحمية مثل بعض مسرحيات شكسبير أو “مهابهاراتا” الهندية، لم يتخل بروك عن الأشكال والحكايات المبسطة التي تُختزل في أدق مدلولاتها وتعبر عادة أكثر مما تقول أو تُظهر، وعن إلحاحه على الاقتصاد في كل شيء حتى في الحركة، لأنه لا يبحث عن الفرجوي، بل يعطي مكانة هامة للجمل الناقصة التي تفهم بالسياق، مثلما يؤثر تقليص الديكور إلى حدوده الدنيا. وهو ما يتجلى في عمله الأخير “لماذا؟” الذي يعدّ مانيفستو حول تصوره للعمل المسرحي، أو وصية عن مفهومه للمسرح وعلاقته به.وفي مسرح “بوف دي نور” الذي أداره بيتر بروك من 1974 إلى 2010، يتناوب ممثلان وممثلة على خشبة ذات ديكور بسيط، للحديث عن الأسباب التي دفعتهم إلى الانخراط في الفن الرابع، والاحتفاء بالمسرح بعفوية تامة حديثا لا يخلو من مزاح ودعابة، ويطرحون السؤال تلو السؤال: لماذا وجد المسرح؟ عمّ نبحث في كل جانب من الخشبة؟ ما هي سلطاتها ونفوذها؟ لماذا استطاع المسرح أن يكون أكثر الفنون إثارة ومشاغبة رغم أننا نصاب أحيانا بالسأم والضجر في رحابه؟ تلك الأسئلة لا تملك الدلالة نفسها حين تقال أول العمر أو في خريفه. والطريف هنا أن تلك الأسئلة لا تبقى مجرد نظريات، بل تتعداها إلى ممارسة فعلية على الخشبة. ولكن حديثهم يتخذ منحى تراجيديا عندما يستحضرون رجل المسرح الطلائعي الروسي فسيفولود مايرهولد (1874-1940)، ذلك الذي قال قبيل إعدامه في أحد سجون موسكو بتهمة الجاسوسية واتباع التروتسكية “المسرح سلاح بالغ الخطورة”، وقد عرف عنه ميله إلى التجديد وابتكار أعمال مسرحية مستقبلية تدير ظهرها للواقعية منذ توليه إدارة “مسرح الثورة” عام 1922، بيد أن ذلك النزوع إلى الطلائعية لم يعجب ستالين الذي كان يريد فنا واقعيا اشتراكيا تفهمه الجماهير الشعبية بسهولة، فقام منذ وصوله إلى السلطة بعمليات تطهير سياسي، شملت رجال المسرح والآداب والفنون، وقادت عددا منهم إلى الموت والنفي والمعتقلات. وكان مايرهولد من بين ضحاياه، رغم أنه لم ينكر شيوعيته حتى الرمق الأخير. ومن خلال مسيرته الخاصة، وتجربة مايرهولد الفنية والوجودية، يتساءل بروك عن ممارسة فن ألمّ بأسراره حتى عُدّ من عمالقة الإخراج المسرحي في القرن العشرين، وعن الأساليب التي اعتمدها في خلق أجواء ساحرة بوسائل غاية في البساطة في أغلب الأوقات. ويستدعي لتبيان ذلك بممثلة (كاثرين هانتر) وممثلين (هايلي كارمايكل ومارسيلو ماغني) لتفكيك آليته ووصف دواليب اشتغالها، يتولى كل واحد منهم الإجابة عن كيفية تعامله مع شخصياته في مواقفها المتنوعة، قولا وإيماء، مستعينا بمعيشه على الخشبة، وعلاقته بالجمهور. ومن خلال عمليات البوح تلك، يجنح العمل كله إلى تجربة مايرهولد والتأكيد على العلاقة الجوهرية بالجسد، الذي يسمح للممثل بالإفصاح والتعبير. كل ذلك بطريقة فنية بعيدة عن المباشرة، في ديكور لا يحوي من العناصر إلاّ أقلها، وهي هنا زربية حمراء، وكراس، وثلاثة محامل. ورغم ذلك ينجح الممثلون في الوصول إلى جوهر الإبداع المسرحي، بفضل فترات صمت يؤثثها المتفرج لينفذ إلى عنت مايرهولد الذي ظل على يقين حتى آخر لحظة من حياته بأن الحقيقة سوف تنتصر. ورغم مقتل زوجته من بعده، لم تُعِد إليه سلطات بلاده الاعتبار إلاّ عام 1955، أي بعد موت ستالين، وتصفية مرحلته الدموية. “لماذا؟” هي درس حول منهج بيتر بروك، لا غنى عنه لكل من يرغب في فهم كتابة هذا العلم الإنكليزي. ما بين تساؤلاتها المستمرة عن الخطأ والصواب، تحاول المسرحية أن تبين أن الممثل إذا أراد أن يصيب المرمى فعليه ألاّ يمثل، وليبحث عن التأثر والانفعال حيثما وجدا، بداخله مثلا، بعيدا عن الموضوع المثار.هو درس لمساءلة كل شيء، حتى أقصى العبثية، على غرار المخرج الروسي مايرهولد، حين كان يشتغل على فضاء طلق، بلا ستار ولا خلفية. وهو ما عمل عليه بروك في أغلب ما أنتج وأخرج، حيث كان يعتمد على عنصرين مثّلا مسيرته هما الفضاء الفارغ، والإخراج بلا إخراج. المسرح، ولا شيء غير المسرح، حكايات لقول العالم، ووضعه على مسافة كي تسهل مواجهته، ذلك ما سعى إليه بيتر بروك طوال مسيرته، وربما لا يزال يسعى وهو في هذه السن، ويوهمنا بسؤاله “لماذا؟” بأنه لا يفهم شيئا، فيغدو مثل سقراط حين قال “كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئا”.

مشاركة :