لا ريب أن التاريخ معلم وشاهد، لكنه لا يعلم إلا من يريد أن يتعلم، وشاهد ينطق بما خط في سجله الحافل بالأحداث والوقائع والمتغيرات، ومهما يحاول من يريد أن يطمس حقائقه، فإنها لا بد أن تظهر في يوم ما، حينما تجد من يقرأها، ويدرك ما بين سطورها. وتاريخ منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي حافل بالأحداث الجسام، إمارات ودول نهضت، وأخرى أفلت، رجالات ارتبطت أسماؤهم ببناء دول وإحداث نهضة، وتقويم مسيرة، لا يبتغون إلا مرضاة الله وصون الأمانة التي حملهم إياها شعبهم، وأشباه رجال لا يعرف عنهم غير الغدر والتآمر، وحب الدنيا وزخرفها، وأكل السحت الحرام، وإنفاق المال في السفه والموبقات. إن أغلب المؤرخين المنصفين، إن لم يكن جميعهم، الذين كتبوا عن تاريخ المنطقة أكدوا أن قادة وشيوخ آل خليفة الكرام عبر حقبة زمنية طويلة، أسهموا بشكل فاعل في صناعة التاريخ في الجزيرة العربية والخليج العربي، إلى جانب أشقاء آخرين في مقدمتهم آل سعود الكرام، وقبائل السعدون المنتفك في العراق وغيرهم، بدءا من مسير العتوب أجداد آل خليفة، من جنوب نجد حتى استقرارهم على ساحل الخليج العربي في منطقة الزبارة في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري الموافق النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا بقيادة الشيخ محمد بن خليفة رحمه الله، مرورا بتحريرهم البحرين من الاحتلال الفارسي، وذلك بقيادة المغفور له الشيخ أحمد بن محمد بن خليفة، الذي عرف من يومها (بأحمد الفاتح) في عام 1197هـ/ 1782م وصولا إلى جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله، راعي النهضة وموطد أركان المملكة ورمز الوحدة الوطنية المعاصر، ورئيس وزرائه صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة أطال الله في عمره، رجل الدولة الحكيم، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة رعاه الله شعلة البناء ورمز التطلع إلى المستقبل الزاهر. لقد أجمع المؤرخون على أن آل خليفة الكرام تميزوا عن الإمارات والممالك العربية الأخرى القائمة آنذاك بالعقلانية وبعد النظر وعدم التدخل في شؤون الآخرين، فهم حكماء المنطقة، وكرماؤها، صنعوا التاريخ ليس بما يملكون من مال زائل، أو سطوة غاشمة، بل صنعوه بقيمهم الخالدة وبطولاتهم المشهودة وعنفوانهم وكبريائهم العربي الأصيل، وما كانوا يقدمونه من مشورة سياسية واجتماعية ورأي رشيد لكل من يستعين بهم قاصدا الحكمة والسداد، فكان ذلك مدعاة لالتفاف القبائل حولهم، فضلا عن تضحيات أبنائهم الأفذاذ وتصديهم للأطماع الأجنبية في كل العصور، فاستحقوا أن يخلدهم التاريخ ويمجدهم المؤرخون ويشيد بهم المنصفون. لذا على الرغم من كل العواصف التي اجتاحت المنطقة وهزت عروشا كثيرة، وغيرت قناعات ظن البعض أنها راسخة، ظل آل خليفة متماسكين ثابتين على نهجهم وعهودهم، وحكمتهم شامخين بأصالتهم والتفاف الشعب حولهم، لا تهزهم ريح، ولا تخيفهم قعقعة السلاح. فمرت على مملكتهم الحبيبة مؤامرات عديدة يحركها أولئك الطامعون القابعون خلف الحدود، وكان الشعب الوفي العارف قدر الأسرة المالكة الكريمة كفيل بدحرها، وآخرها مؤامرة 14 فبراير 2011م وما تلاها من تداعيات، فقد تآمرت دول كبرى وأخرى إقليمية، وخططت ومولت ودربت المأجورين وحشدت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وسخرت منظمات حقوقية ودولية للنيل من المملكة وقيادتها الخليفية الحكيمة، واستنساخ تجارب الدمار والتشظي التي حصلت في عدة دول عربية تحت مسمى الربيع العربي، والتي كانوا يهدفون من ورائها إلى تمزيق البلاد وتدمير وحدتها التاريخية ونهضتها المعاصرة. وقد أعطى شعب البحرين درسا جديدا لعنفوان وقوة الوفاء وثبات البيعة، سجله التاريخ بأحرف من نور، حينما زحف نحو (350) ألفا من شعب البحرين إلى مركز وساحات جامع الفاتح يوم الإثنين 21 فبراير 2011م ليعيدوا التوازن للمعادلة السياسية في البلاد ويقبروا المؤامرة، وليثبتوا للعالم أجمع أن خيارهم خيار آبائهم وأجدادهم لا حياد عنه أبدا، ولا تراجع عن بيعتهم الدائمة للأسرة الخليفية الحكيمة بقيادة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه، وما كان ذلك إلا تعبيرا عن إيمان متجدد بالدور الكبير الذي لعبته الأسرة الخليفية في بناء أول دولة مستقلة في المنطقة وفرت لشعبها الأمن والاستقرار والرخاء على الرغم من محدودية الموارد المالية والمادية. وحينما نقول ذلك ليس استذكارا لأحداث وقعت في الماضي ومضت، بل إنه تذكير واستلهام لقوة الدفع، وتجديد للإرادة التي صنعت تلك الوقائع، وتأكيد على أن العزم والمعطيات التي رافقتها في حينها، قد أثمر زرعها، فنحن اليوم أقوى وأرفع مما كنا بالأمس، وغدا سنتخطى اليوم، وهكذا فإن حياتنا ترتقي من حال إلى أحسن منها، وبلادنا تنهض من مجد إلى مزيد من الأمجاد والرفعة، وفي هذا الاتجاه قال جلالة الملك في خطابه السامي بافتتاح دور الانعقاد الأول من الفصل التشريعي الخامس للمجلس الوطني «لتتواصل مسيرتنا الوطنية الواحدة على درب التقدم والاستقرار نحو ما نتطلع إليه معكم -دولة ومواطنين- من ازدهار ورفعة، فمنذ أن حملنا العهد وعقدنا العزم، بمساندة شعبنا الوفي، على تنفيذ رؤية إصلاحية وحداثية نبعت من واقعنا البحريني، فقد تسارعت عجلة البناء والإنتاج بنتائجها الطيبة التي نجد في نموها المستمر ما يقوي بناء دولة المؤسسات والقانون، والتي استطاعت، بعون الله، وعبر مسيرتها الثرية وعمرها الفتيّ أن تبلور تجربتنا البحرينية الرائدة بإنجازها، والمتميزّة بمضمونها، والرحبة بتطلعاتها». فهل يدرك حكام قطر ومن على شاكلتهم ذلك؟ هل يدركون أن تخرصات قناتهم «الخنزيرة»، ووسائل إعلامهم المأجورة ضد البحرين وقيادتها الخليفية الحكيمة لا تتسق مع التاريخ المضيء لآل خليفة الكرام، ولا تصمد أمام الحقائق التي يعرفها القاصي والداني، ولا يقرها عاقل رشيد؟ وأنها لن ترهب البحرين، ولن تخدع شعبها الوفي، ولكن هل يقرأ حكام قطر التاريخ ويتعلمون منه؟ إنهم في تخرصاتهم وادعاءاتهم على البحرين، يكشفون زيف أنفسهم، فينطبق عليهم المثل العربي «كاد المريب أن يقول خذوني». كما أنهم يفصحون عن جهلهم تماما بمتطلبات الإصلاح والتنمية والتخطيط للمستقبل، إذ إنهم لا يعلمون أن من ينشغل في البناء والإعمار والتنمية، لا يرهق نفسه بالتدخل في شؤون الآخرين، وتدبير المؤامرات. وهل سألوا أنفسهم لماذا يجمع المنصفون على أن دورهم العربي والخليجي، دور تخريبي مناهض لقيم الدين والعروبة والأخوة؟ هل أن المال والثروة التي أنعم الله بها على شعب قطر تعطي حكامها الحق في إنفاقها لتمويل المؤامرات والدسائس وتنظيم واحتضان الجماعات الإرهابية لتخريب الدول الشقيقة، مهما كان مبرر ذلك؟ وهل أن البحث عن دور إقليمي ودولي مؤثر يتم من خلال استثمار الثروات في تدمير الآخرين؟ أم أن ذلك يعبر عن الشعور بالنقص، والتضاؤل، وغياب الحكمة، وفقدان البوصلة، ومسخ الرؤية؟ ختاما نؤكد استنكارنا بشدة للسلوكيات والمنهج غير الرشيد الذي تعتمده حكومة قطر، وتخرصات قناتها الفضائية المسخ وأبواق الفتنة والضلالة الأخرى، التي تستهدف النيل من استقرار وأمن ونهضة مملكتنا الحبيبة والتفاف الشعب بكل أطيافه وشرائحه حول الأسرة الخليفية الكريمة تحت قيادة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، بل تزيدنا إصرارا على التمسك بمنهج جلالته ومشروعه الإصلاحي وسياسته الخليجية والعربية والإسلامية والدولية الحكيمة، مجددين عهد الولاء والوفاء والبيعة الدائمة، وأننا رهن إشارة جلالته جنودا أوفياء للذود عن حياض الوطن، حفظ الله البحرين خليفية خليجية عربية مسلمة. أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :