ميظل هاجس الأمومة يطارد المرأة حتى لو كانت غير متزوجة. ورغم ما يقدمه منظور كفالة الأطفال اليتامى من حل عملي للتغلب على ذلك الشعور، إلا أنه يصطدم دائما في المجتمعات العربية بعقبات ثقافية وفكرية رجعية تضع الأم والطفل المكفول تحت طائلة التنمر والشكوك. ورغم تطور التشريعات الحامية لحقوق المرأة والطفل في المجتمعات العربية إلا أن مسألة احتضان الأم العزباء لطفل يتيم ما زالت تخلق نوعا من التشدد الذي تتشابك فيه أعراف المجتمع بالقوانين. وإذا كانت تونس قد مثلت حالة منفردة في الدول العربية عندما صدر حكم قضائي تاريخيّ وُصف بالجريء، يعدّ الأول من نوعه في تاريخ القضاء التونسي والعربي، قضى بصحة تبنّي فتاة عزباء لطفلة مجهولة النسب بلغ سنها 4 سنوات (وذلك رغم اشتراط قانون التبني لسنة 1958 شرط الزواج في الشخص المتبنّي)، فإن الوضع العام لا يختلف عن بقية الدول العربية، وحتى بعض الدول الغربية، حيث ينظر للمرأة العزباء على أنها غير مؤهلة لتكون أمّا. وفي المثال التونسي، كان وضع الطفلة هو السبب وراء هذا القرار، حيث ورد في الحكم الصادر بتاريخ 12 يوليو 2018 أن الطفلة الصغيرة المتبناة تعاني من وضع صحي دقيق إذ أنها مبتورة إحدى الساقين، ولم تتقدم أي عائلة لتبنيها رغم تقدمها في السن حيث بلغت سن 4 أعوام، وذلك عدا طالبة التبني التي عبرت عن استعدادها للقيام بشؤون الطفلة والسهر على رعايتها وتوفير جميع المستلزمات الصحية لمعالجة الإعاقة التي تعاني منها. واليوم، تتصاعد أصوات الكثير من الفتيات العربيات الراغبات في تبني أطفال بحكم تغير الأوضاع الاجتماعية. ومن تونس إلى مصر تجابه النساء سلسلة طويلة من العوائق القانونية والعقبات المجتمعية. وتظهر حكايات الأمهات العازبات مع الكفالة، الظلم المجتمعي والقانوني الذي قد يحرم أطفالا تخلت عنهم أمهاتهم. داليا، مصرية وصلت إلى سن الـ40، ولم تتزوج. أرادت أن تتبنى طفلا، لكن الأسرة والمجتمع المحيطين بها لم يرَيا من الصورة إلا الجانب الذي يريدانه وسط تأويلات واتهامات وأحكام مسبقة وعدم استيعاب أو تقبل فكرة أن يكون لامرأة غير متزوجة طفل، حتى لو كان بالتبني أو من خلال نظام الكفالة. واجهت داليا سيلا من اللوم على عدم زواجها حينما أرادت أن تكفل رضيعا في منزلها وتخوض معه تجربة منح الحب والاهتمام، حتى باتت غاضبة من المجتمع بأسره، فهي لن تطرق أبواب الرجال لكي تجد منهم من تخطبه. ورغبتها في الأمومة، لن تتحقق إلا بسبيلين؛ إما الحضانة وإما اللجوء إلى الزواج المشروط بالحمل والذي تتحفظ عليه وتعتبره نوعا من العلاقات غير الشرعية. خيار داليا جاء في خضم تعلقها بالأطفال الذي تحول إلى هوس. أحيانا كانت تلتقط طفلا لتقبله وتضمه دون مراعاة لأسرته التي تتخوف من الغرباء، وطالما قضت ساعات في متنزهات الصغار مكتفية فقط بمراقبتهم وهم يلعبون ويبكون ويصرخون، وقررت أن تعمل في دار حضانة مسائية إلى جانب عملها الأصلي لكي ترعاهم، لكنها تظل في رغبة بأن يكون لها طفل خاص تتولى الاهتمام به طوال اليوم. ووضعت وزارة التضامن الاجتماعي بمصر شروطا يسرت إجراءات الأسر البديلة على الأرامل والمطلقات ومن لم يسبق لهن الزواج وبلغن من العمر ما لا يقل عن 30 سنة، ولكن بعد موافقة لجنة تثبت صلاحيتهن، تضم ممثلين لوزارات التضامن الاجتماعي والصحة والتربية والتعليم والداخلية ومدير إدارة الأسرة وممثل للجمعيات الأهلية المعنية بالطفولة وغالبا ما تكون حظوظ الأرامل والمطلقات أفضل من “الأم العزباء”. وبعد نجاح داليا في احتضان الطفلة روان، وتحدي المجتمع، تلقت صدمة حينما تم رفض أوراق قبولها في عدد من المدارس الدولية. فبمجرد تقديم الورق واتضاح اختلاف الاسم بين الأم الحقيقية والبديلة، تم الاعتذار عن استكمال المقابلة أو إنهائها سريعا، وجاءت النتائج في جميع المدارس واحدة “غير مقبولة”، وحينما استفسرت، قالت لها مديرة إحدى المدارس “أسر باقي الأطفال ترفض أن يكون لديّ أبناء بالتبني”. وتشترط وزارة التضامن الاجتماعي بتعهد الأسرة بالحفاظ على نسب الطفل اليتيم أو مجهول النسب وتسمح أحيانا بأن يحمل لقب عائلة الأسرة الكافلة في نهاية اسمه بشرط أن يثبت نسبه الأصلي في ملف الطفل. وتقول علياء (31 عاما) إنها ظلت تنتظر بفارغ الصبر بلوغ عمر الثلاثين من أجل احتضان طفلة صغيرة، بعد مرور بتجربة زواج فاشلة، استمرت 5 سنوات، وانتهت بطلاقها من زوجها بسبب عدم قدرتها على الإنجاب واقترانه بأخرى قبل أن تفاجأ برفض أسرتها، ومطالبتها بخوض تجربة زواج جديدة طالما تريد أن تصبح أمّا، فشرف العائلة لا يحتمل أن تكون إحدى بناتها “أمّا عزباء”. حاولت علياء أن تدافع عن حلمها بأن تصبح أمّا، لكن كان تصميم أسرتها عنيفا إلى درجة أن تدخل والدها لطردها من عملها وحرمانها من الدخل المستقل الذي يعتبر عنصرا رئيسيا من أجل الموافقة على الكفالة، واضطرت مجبرة على التراجع عن الفكرة مؤقتا إلى حين استقلالها في حياة جديدة بوحدة سكنية بعيدة عن الأسرة أو الالتحاق بوظيفة جديدة. تدافع الأمهات العازبات عن حقهن في الكفالة بقوة فلا يوجد مبرر يمنعهن في ظل تفضيل غالبيتهن احتضان الفتيات عن الذكور لسهولة التعامل معهن في فترات المراهقة وأن يتمتع الطرفان بحرية في المنزل والملابس لعدم وجود أي شبهات دينية للاختلاط، لكن لا تخلو الحياة من منغصات أحيانا مع تعرض الفتاة المكفولة للتنمر أو بدء مرحلة توجيه أسئلة عن أسباب الاختلاف في الاسم بين الأم الحقيقية والبديلة أو أين ذهبت أسرتها الأصلية؟ طلب متنام وشروط مجحفةيقول مسؤول حكومي بإحدى لجان الأسر البديلة في القاهرة لـ”العرب” إن الطلبات على الكفالة بين الأم العزباء متنامية في ظل استقلال المرأة ماليا، والتزايد المستمر لنسب الطلاق التي جعلت بعض الفتيات يعتبرن الزواج مشروعا فاشلا، يمكن الاستغناء عنه بتبني طفل صغير تعيش معه الأمومة بتفاصيلها، ويتولى العناية بها في سن متأخرة. ووصل إجمالي عدد الأسر البديلة في مصر العام الماضي 11 ألفا و241 أسرة تتركز معظمها في العاصمة، وتقل في المحافظات الريفية التي لا يتجاوز في بعضها عدد الأطفال المكفولين 400 طفل في ظل اعتبارات مجتمعية تؤيد كفالة الطفل على المستوى المالي في دار للرعاية دون استقدامه للمنزل. ويتابع المسؤول الحكومي، حديثه لـ”العرب”، إن لجان الأسر البديلة لا تمارس التعسف إزاء الأم العزباء لكن الموافقة على احتضانها تتطلب المزيد من الحرص في معرفة السكن الذي ستوفره سواء أكان مع أسرتها أم في منزل مستقل، واستدامة دخلها حفاظا على مستقبل الطفل، والتأكد من أنها لن تضحي به حال رغبتها في الزواج، ومحاولة التقاط معلومات حول كيفية تعاملها معه حال إنجابها أطفالا بطريقة طبيعية. وتحاول من خاضت تجارب الأسر البديلة أن تقدم دعما فنيا إلى غيرها مثل استشارية العلاقات الأسرية يمنى دحروج، التي حولت مشكلة عدم قدرتها على الإنجاب إلى اهتمام بالطفولة بوجه عام وتأسيس رابطة خاصة للأمهات المحتضنات تحمل طابعا عربيا وتقدم نصائح اجتماعية وطبية، وهدفها منح الأمهات قوة في مواجهة التنمر المجتمعي والمساعدة في الرد على الأسئلة الشائكة التي تواجههن من الأبناء حين وصولهم إلى مرحلة النضج. وتحول دحروج حياتها مع طفلتها المكفولة ليلى، إلى تجربة حياة تنقلها إلى غيرها من السيدات وتجذب مختصين معها من الأطباء ليقدموا دعما للمرأة الحاضنة حول استخدام منشطات هرمونية لإدرار الحليب دون حمل لإرضاع الذكور خمس رضعات مشبعات في أول عامين حتى يصبحن أمهات بالرضاعة، وطريقة لخلق رابطة بين الأم البديلة وطفلها مع نموه في العمر حتى تصبح معادلة تماما لرابطة الأم وجنينها. ويقول أحمد مهران، مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، إن الاشتراطات التي تضعها الجهات المعنية بالأطفال في دور الرعاية هدفها الحفاظ على وضع اجتماعي واقتصادي مناسب للطفل واختيار المؤهلين للعناية به على المستوى الصحي والتعليمي، ما يكفل له الاستقرار في حياته ومنع تعرضه لأزمات نفسية. وتشترط وزارة التضامن بمصر أن يكون مقر الأسرة في بيئة صالحة تتوافر فيها المؤسسات التعليمية والدينية والرياضية، وأن تتوافر الشروط الصحية في المسكن والمستوى الصحي المقبول والدخل الجيد، وأن يكون الزوجان حاصلين على شهادة الثانوية العامة على الأقل أو ما يعادلها، وأن يفتحا حسابا بنكيا للطفل بمبلغ لا يقل عن خمسة آلاف جنيه مصري (300 دولار أميركي). ويضيف مهران، في تصريح لـ”العرب”، أن القوانين المتعلقة بحضانة الأطفال تتعامل مع المسائل المالية في المقام الأول لكن تظل نظرة المجتمع وثقافته عائقا أمام انتشار تجربة الاحتضان التي تواجه عقبات إطلاق لقب العائلة على الطفل المكفول الذي يحميه التنمر من قبل شبكة الأقران أو في محيط العائلة ذاتها من معارضي احتضانه.
مشاركة :