عقد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، والبطريرك كيريل الأول، بطريرك موسكو وسائر روسيا، قمة تاريخية في مقر الكنيسة الأرثوذكسية في العاصمة الروسية موسكو، فيما اعتُبر أهم لقاء إسلامي مسيحي في المشرق، حيث تُعتبر الكنيسة الروسية أكبر كنيسة أرثوذكسية شرقية مستقلة بأتباع يتجاوز عددهم 250 مليونًا.وشهد اللقاء، الذي حضرته كبرى القيادات الدينية، مباحثات ثنائية مثمرة بين الجانبين، وتبادل للخبرات ووجهات النظر حول عدد من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. وأكد البطريرك كيريل الأول سعادته بزيارة الشيخ العيسى إلى روسيا، منوهًا بالدور المستنير الكبير الذي تقوم به أمانة رابطة العالم الإسلامي، وقال: "أنتم تعينون الكثير من المحتاجين في آسيا وأفريقيا وهذا موضع اهتمامنا وتقديرنا البالغ، وبفضل مساهمتكم الشخصية في نشاط رابطة العالم الإسلامي، فقد أصبحت معروفة في العالم المسيحي أيضًا الذي يُقدّر لكم هذا النشاط الملحوظ، وكما تعلمون فإن للكنيسة الأرثوذكسية شبكة علاقات كبيرة مع الجمعيات والجاليات الإسلامية، وإن التواصل مع المسلمين في بلادنا موجود، ولم يشهد التاريخ الروسي أي سابقة حروب أو نزاعات مع المسلمين".وأضاف: "بما أن المسيحيين الأرثوذكس والمسلمين ينتمون للحضارة الشرقية فهناك الكثير من المشتركات بيننا، وعملي كبطريرك لموسكو وسائر روسيا أوضح لي هذه الحقيقة بشكل جلي، وأقول لكم بصراحة كانت تنقصنا معكم علاقات صداقة، ولذلك أنا سعيد جدًا بزيارتكم". وتابع البطريرك مخاطبًا الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى: "بالأمس مُنحتم درجة الدكتوراه الفخرية في موسكو، وهذه الدرجة تعتبر دليلًا على الاعتراف بدوركم المؤثر على المستوى الدولي والديني، بالإضافة إلى الاعتراف بدوركم كعالم من أبرز العلماء وهذا اعتراف أيضًا باعتباركم رجلًا يخدم السلام والعدالة، ولا يسعنا إلا أن نتناول اليوم موضوع التطرف وخاصة أولئك الذين يختبئون خلف الإسلام لتبرير تصرفاتهم الآثمة"، مؤكدًا أن إرادة الشر تسعى دائمًا لتخريب علاقة المحبة والمودة بين المسلمين والمسيحيين، مع أنهما ينتمون لحضارة شرقية واحدة ليس فيها صدامات حضارية. وشدد على وحدة الشعب الروسي، بغض النظر عن تنوع الأديان والمذاهب والاثنيات، وقال: "روسيا يمكن أن تكون قدوة للدول وبين ممثلي العقائد والأطياف، مع أسفنا الشديد لما يحدث في العالم من نزاعات عسكرية تسيل فيها دماء الأبرياء، ولا يمكن أن نصمت تجاهها".وتطرق إلى قضية التطرف والإرهاب، خاصة الذين يدعمون فكرة أن المسلمين متطرفون، مؤكدًا في هذا السياق أن الإرهاب والتطرف لا يمكن أن يرتبط بالعقلية الدينية.وأشار البطريرك إلى تضرر الجميع من المسيحيين والمسلمين وغيرهم من النزاعات المسلحة ومشكلات النزوح واللجوء، وقال: "هذه قضايا توليها الكنيسة الأرثوذكسية أهمية وأولوية بالغة بغض النظر عن الدين واللون والعرق، وللتأكيد على هذا قمنا بتشكيل فريق عمل مكون من المسلمين والمسيحيين معًا لمناقشة هذه القضايا الإنسانية المهمة". ونوه بما تضطلع به رابطة العالم الإسلامي من دور إيجابي وأخلاقي في تربية الشباب تربية صحيحة، مضيفا: "نحن ننظر باهتمام لمؤتمر وثيقة مكة المكرمة الذي جمع أكثر من 1000 عالم ومُفْتٍ، ونثمنه كثيرًا ونقيمه تقييمًا عاليًا، ونشيد بالدور الإيجابي لهذا المؤتمر والذي تكلل بالنجاح، والكنيسة الأرثوذكسية تدعم كل مساهمات الحوار والسلام، وآمل بعد هذا اللقاء أن نتعاون أكثر في المستقبل وخاصة في إقامة السلام والعدالة في العالم".من جانبه، قال الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى: "أعبر عن سعادتي لزيارتي للكنيسة الأرثوذكسية وبلقائي مع الهولينس البطريرك كاريل وهو المشهود له بالجهد المتميز في تعزيز الوئام والتعايش الديني وبث روح المحبة والتسامح، ونحن من موقعنا في رابطة العالم الإسلامي وباسم الشعوب الإسلامية، نُقدر الجهود الإنسانية والأخلاقية للكنيسة الأرثوذكسية ونُقدر مشاعرها المنصفة تجاه الإسلام، ونُقَدّر لنيافتكم وصفكم للإرهاب بأنه لا دين له وأن الإسلام تحديدًا بريء منه".وأضاف الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى: "التقيت بعدد من المسلمين، خاصة العلماء، في روسيا الاتحادية وهم يحملون تقديرًا كبيرًا للكنيسة الأرثوذكسية لما تقوم به من جهود لحفظ الوئام الديني وهو جهد تاريخي مشكور، وكما ذكرتم نيافتكم فالمشتركات بيننا عديدة، خاصة تقارب الثقافة الشرقية في قيمها الإنسانية والأخلاقية، وكما قلتم نيافتكم لن يكون هناك صدمة حضارية بيننا لأننا من ثقافة شرقية واحدة، ولنا أهداف إنسانية متعددة، بحكمتكم يمكننا تعزيز التعاون الديني والاثني والعرقي، ونؤمن في عالمنا الإسلامي بدوركم الكبير وعلى يقين بأهميته وتأثيره".وأكد تقدير الرابطة باسم الشعوب الإسلامية لجهود الكنيسة الأرثوذكسية، في محاربة التطرف والكراهية وتعزيز السلام من خلال دورها المؤثر، وقال: "كما تفضلتم بأن رابطة العالم الإسلامي نظمت قمة مكة المكرمة بحضور غفير من مفتي وكبار علماء العالم الإسلامي وعالجت بها الكثير من القضايا التي تهم الإنسانية في عدد من قضاياها الملحة".وأضاف عبد الكريم العيسى: "من خلال موقعي كأمين عام لرابطة العالم الإسلامي أتحدث بلسان الشعوب الإسلامية التي تنضوي تحت رابطتنا، مؤكدًا دعمنا لجهودكم الإنسانية والأخلاقية والتي جسّرت علاقة المحبة والوئام مع الجميع، ونحن مسرورون بهذا التواصل".وجدد محمد بن عبد الكريم العيسى، التعبير لقداسة البطريرك عن سعادته بهذا اللقاء، معتبرًا أنه سيكون بداية لتعاون مشترك فاعل ومهم بإذن الله تعالى، مؤكدًا أن "القائد الديني عندما يتمتع بالحكمة فإنه يقود الجهود إلى بر الأمان، ومن قدسية مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في المملكة العربية السعودية التي تمثل المرجعية الروحية للعالم الإسلامي أجدد سعادتنا بهذا التواصل والتعاون مع الكنيسة الأرثوذكسية ومن يتبعها، وخاصة مع قائد روحي حكيم بحجم نيافتكم".بعد ذلك شهد محمد بن عبد الكريم العيسى، وقداسة البطريرك كيريل الأول، توقيع اتفاقية تعاون بين الرابطة، وبطريركية موسكو وعموم روسيا، وقعها كل من وكيل العلاقات والتواصل برابطة العالم الإسلامي معالي محمد بن سعيد الغامدي، وغبطة رئيس إدارة العلاقات الكنسية الخارجية ببطريركية موسكو وعموم روسيا المطران فولوكولامسك.وتجسد الاتفاقية إيمان الطرفين بأهمية الحوار بين أتباع الأديان في الواقع المعاصر، والدور المهم للمؤسسات الدينية في حل القضايا الدولية وحالات النزاع، ورغبة المسلمين والمسيحيين في تعزيز التعايش السلمي والبنّاء، والحاجة الملحة لتحقيق الأهداف المشتركة حول ما أمر الله به من نشر قيم السلام والأخلاق والمحافظة على دور الأسرة والنبذ الشامل لأي شكل من أشكال التطرف وكراهية الآخر.كما تؤكد الاتفاقية على دور رابطة العالم الإسلامي والكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تنمية العلاقات الودية بين أتباع الأديان والشعوب.وتقر الاتفاقية التنسيق بين الجانبين في قضايا التعاون بين الحضارات والثقافات ونشر ثقافة السلام والارتقاء بأخلاقيات المجتمع والأسرة وتعزيز حقوق الإنسان، والتواصل الأكاديمي والتبادل المعلوماتي، وقضايا الأقليات الدينية في ظروف الأزمات، والتعاون في المجال الإعلامي.
مشاركة :