ودّع لبنان يوم الثلثاء أحد أبرز النماذج الأخلاقية في الإدارة اللبنانية المصابة بالترهل والاهتراء، بفعل التأزم السياسي المديد العمر، وبفعل تفاقم الآثار المدمرة لغلبة الانتماء الطائفي والحزبي على الاستقامة والكفاءة. ووري المثقف والإعلامي والكاتب اللاذع فؤاد بدوي عبيد الثرى، في قريته علما في قضاء زغرتا شمال لبنان، بعدما صارع المرض لسنوات، فغلبه على رغم قراره بمقاتلته، في مأتم جمع اللبنانيين على شخصية نادرة في صفائها وترفعها. ترجل فؤاد عبيد بعد سيرة نموذجية اجتمعت فيها صفات قلّ تضافرها في شخصية تولت الخدمة العامة في بلد ينخره الفساد وتسوده الزبائنية الرخيصة. تدرج في وزارة الإعلام وصولا إلى تولي مسؤولية إدارة قسم الريبورتاج في الإذاعة اللبنانية ومدير للبرامج ورئيس لمصلحة الانتاج الاذاعي ومستشار لوزارة الاعلام، أيام عز الإذاعة صرحا إعلاميا يخرّج أشهر الصحافيين والمذيعين والمخرجين، والفنانين، وعايش سياسيي ذلك الزمن الكبار. لم تحل الحرب الأهلية دون بقاء فؤاد عبيد على انفتاحه على المناطق كافة في زمن تقطع أوصالها، رافضا هيمنة الميليشيات ومنطق التعبئة الطائفية وحكم شريعة الغاب بتغييب القانون والدولة. نقل خبرته إلى تلفزيون لبنان عضوا في مجلس إدارته للمشاركة في إنهاضه بعد تقسيمه وتهميشه خلال الحرب اللبنانية. عند تعيينه رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة المحفوظات الوطنية، ومديرها العام، اكتشف فؤاد عبيد كم أن أرشيف الدولة اللبنانية، السياسي والثقافي والفني، ينطبق عليه القول أن أمة لا ذاكرة لها هي بلا مستقبل، فلملم الكمية الهائلة من المحفوظات الورقية والخرائط القديمة بينها من قرون، فضلا عن اللوحات الفنية لأشهر الرسامين اللبنانيين، بعضها نادر، بعدما هاله أن يأكلها العفن في المستودعات، كأنها خرضة. أشرف على إنقاذها وترميمها وإعادة الحياة إليها، بل أن أضاف إلى توثيق أدوار زعامات لبنانية في الحياة السياسية والثقافية الكثير، لإثراء محفظة الذاكرة اللبنانية. مكنته خبرته في الإدارة اللبنانية وتعاطيه مع كثر من رموزها النبيلة والكفوءة من اكتشاف خباياها، بما فيها طرق الهدر والتنفيع والغش والتلزيمات المغشوشة التي بقي محصنا ضدها حتى الرمق الأخير. صادق فؤاد عبيد، الآتي من عائلة سياسية نهلت من الثقافة العربية والعالمية، السياسيين والرؤساء، الذين كانت ما تلبث صراحته الصافية معهم بلا محاباة، أن تقودهم إلى مخاصمته، أو اجتنابه في أحسن الأحوال، أو أن تدفعه إلى اجتنابهم إذا رغب بعدم إحراجهم، ومقاطعتهم حين يأنف فساد ورياء بعضهم مهما أجادوا في خلق سمعة معاكسة تتيح لهم تغطية أفعالهم. وكان وضوحه بلا ممالأة، سببا كي يدفع فؤاد عبيد ثمنا في الترقي في الخدمة العامة. لم يقتصر السبب على كونه شقيق النائب جان عبيد، لأن بعضهم احتسبه منافسا على الرئاسة الأولى... بعد انتقاله إلى التقاعد من الوظيفة العامة لم يشأ فؤاد عبيد الإقلاع عن قول رأيه الصريح، من موقعه "مستشارا" في إذاعة "صوت لبنان- 93.3 في تعليقه الإسبوعي "بلا عنوان"، الذي ازدحمت فيه العناوين، (صدرت في عدة كتب) مستعينا بثقافته الواسعة وخبرته العميقة، ومعرفته الدقيقة بالمجتمع السياسي وعلى الأخص إحساسه الأصيل بالنقمة الشعبية الفطرية على الطبقة السياسية الحاكمة. ومن هذا الموقع أيضا لم يغادر ميله إلى مصارحة السياسيين الأصدقاء أو المختلفين معه فيجبرهم على أن ينصتوا إليه، هو الذي أثاره الكم الهائل من الفساد ومن استثارة العصبيات، حين يروي واقعة تاريخية من بحر قراءاته، للتعبير عن الحاضر، لعل اللبيب من الإشارة يفهم، أو بترداد بيت شعر من المعلقات التي تجيد الدوحة العبيدية حفظها وانتقاءها، ليختزل واقع الحال. رحل فؤاد عبيد تاركا إرثا ينتمي إلى قيم إنسانية عزّت في زمن التراجع. * ودّعت بلدة علما فؤاد عبيد الثلثاء في مأتم رسمي وشعبي حيث أقيمت الصلاة لراحة نفسه في كنيسة مار يوحنا المعمدان، وترأسها ممثل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، النائب البطريركي المطران يوحنا رفيق الورشا، عاونه المطارنة: جورج بو جوده، جوزيف نفاع وادوار ضاهر. حضر صلاة الجنازة ممثل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون النائب ميشال معوض، ممثل رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب مصطفى الحسيني، ممثل رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري النائب سمير الجسر، ممثل الرئيس نجيب ميقاتي عمر حمزه، ممثل وزير الاعلام جمال الجراح المدير العام للوزارة الدكتور حسان فلحة، والنواب طوني فرنجية، اسطفان الدويهي، زياد حواط، علي درويش وأسعد حردان، فيما قدم التعازي عدد من النواب السابقين بينهم سليمان فرنجية، والسياسيين من مناطق لبنانية عدة، إضافة إلى وفود شعبية.
مشاركة :