أدب الحج.. تاريخ أقدس رحلة صوب أطهر البقاع

  • 7/26/2019
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

ظهرت التآليف عن رحلة الحج مبكراً منذ القرن الهجري الثاني لكنها شاعت بعد القرن الهجري السادس خاصة علي أيدي القادمين من البلاد البعيدة كالأندلس والمغرب والهند، ومن أوائل من صنف فيه أبو الفرج بن الجوزي في كتابه «مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن»، وإن كانت رحلة ابن جبير قد أصبحت المرجع لكل الرحالة بعدها، ولرحلته قصة طريفة، فهو رجل فقه وعلم وشعر، وكان كاتباً لأبي سعيد بن المؤمن صاحب غرناطة، فاتفق أن استدعاه لأن يكتب وكان على شرابه فناوله كأسا فأظهر ابن جبير الانقباض وقال سيدي ما شربتها قط فأقسم عليه وعزم عليه أن يشرب منها سبعاً فشرب، فلما انصرف إلى داره أحس بالندم وأضمر في نفسه التكفير عن فعلته بالحج إلى بيت الله العتيق، وأدمن على الحج فحج ثلاث مرات، وتاب عن الشراب وعُدت رحلته طليعة أدب جغرافي متميز بالمعنى الفني لكلمة أدب، وأخذ عنه المغاربة وصفه الكعبة بالعروس وتكرر هذا الوصف في أدبهم، وما كانت رحلة ابن بطوطة في الأصل إلا رحلة حج، ومما يذكر أن أبا عبد الله العبدري الفقيه الرحالة ما ترك بلداً سار عبرها في الطريق إلى مكة إلا أوسعها ذماً عدا تونس، ذم القاهرة والأسكندرية وبرقة وطرابلس ومصراته وقابس والقيروان وباجة وبونة وقسنطينة والجزائر ومليانة، ولكنه حين دخل البيت الأمين لانت لغته ورق قلبه وعذب لسانه وكتب فيه كلمات هي أقرب للعشق والغرام.....بلد كأن نفوس الخلق عجنت من طينته، فالخواطر مشغولة بتصور زينته، كم حوّى من مآثر لا تُعد وضم من مفاخر لا تُحد، كم به من أشعث دعوته لا تُرد توده الدنيا وهو يعلم ما يود....أما العالم الهندي مولانا رفيع الدين المراد أبادي فيقول... وتجلى لي جمال الكعبة، ألقيت عليها نظرة واحدة فإذا بمتاعب السفر قد زالت، وإذا بمصائبه قد تلاشت ، ولم أعد أشعر بما أعاني من مشقة نتيجة المشي تحت وهج الشمس المحرقة وعلى الرمال الملتهبة مسافة تزيد على اثني عشر كيلًا، إن نظرة واحدة لجمال الكعبة أزالت عني جميع متاعبي السابقة، وسوف تزول عني أية متاعب لاحقة إلى أن يتوفاني الله رب العالمين. يروي ياقوت الحموي أن عالماً قد أيأسه العثور على كتاب النبي والمتنبئ للجاحظ واتفق أن حج عامه ذاك فأرسل منادياً في الناس ينادي من يدلني على هذا الكتاب، أما الفيروز أبادي فقد حرص على إكمال كتابه القاموس المحيط وهو بمكة على الصفا ودعا أن ينفع الله من بركتها إخوانه ... وهذا جمال الدين ابن هشام الأنصاري يؤلف كتاباً وهو بجوار الكعبة وبينما هو عائد سلبت قافلته من قطاع الطرق من الأعراب، فسافر في رحلة أخرى إلى الحج وألف وهو بجوار الكعبة كتابه (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وهذا الكتاب عمدة في تاريخ النحو العربي، ويري المؤلف أن الأنصاري عمد قاصداً أو غير قاصد إلى استخدام لفظ الأعاريب بما فيه من نقمة مستترة على من قطعوا طريقه من الأعراب. ومما يذكر هنا أن ابن منظور في سبيل تأليفه كتابه لسان العرب قام بتقصي لغة الأعراب في بواديهم ويشافههم في صحرائهم حتى يصل إلى اللسان العربي السليم، وقد ألمت به محنة تحولت إلى منحة إذ أسره قطاع طرق وهو عائد من حجه أيام فتنة القرامطة فوقع في أسر عرب عامتهم من هَوازن وصفهم بأنه لا يقع في باديتهم لحن أو خطأ ويقول: واستفدت من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمة ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في مواقعها من الكتاب. ومن كتب الرحلات الحجازية ما كتب ليدل الناس على معنى الأمة الواحدة وسر تقدم العرب والمسلمين الذي لا ينهضون بغيره وهو العودة إلى نبع رسالتهم، ومن هذه الرحلات التحفة الإيقاظية في الرحلة الحجازية للمثقف العراقي سليمان فيضي، وكتاب محمد حسين هيكل في منزل الوحي الذي يعتبره مؤلف الكتاب رحلة روحية فيها إعادة لاكتشاف الذات، ليستنتج أن الأمة هذه لن تنهض ببنائها الفردي أي كأمة مصرية عاكفة على جغرافيتها، ولا بنهج نهج الغرب في كل شيء، بل بالعودة إلى سر القدر الذي جعله الله في هذه الأمة فلا تنهض بغيره، فهي أمة واحدة فكرتها الإسلامية تعلو على القوميات وتستمد إلهامها من الوحي. من زعماء النهضة والمصلحين التونسي محمد السنوسي الذي ألف كتابه الكبير ذا الثلاثة أجزاء يصف فيها رحلته متبعاً الآية القرآنية (قل سيروا في الأرض) فبدأ رحلته بزيارة أوروبا مستطلعاً أسباب تقدمها وتأخر المسلمين وكتب عن المخترعات والمكتشفات الحديثة وحضر مسرحية في إيطاليا ومسرحية من مسرحيات أبي خليل القباني في دمشق وعندما انتهى المطاف به إلى مكة والمدنيه حاور علماءها وغشي مجالس مثقفيها وكتب عن ذلك كله وفصل في ذلك حتى أنه كتب عن شعراء مكيين لم يكونوا معروفين كثيراً، وعاد ملخصاً أن النهضة تبدأ من مكة. ومن زعماء النهضة الشيخ محمد رشيد رضا الذي أنشأ سلسلة من المقالات في مجلته المنار تتكلم عن حال الحجاز والحج ونقد بعض الممارسات الصوفية وحاور بعض مشايخ جدة ومكة ممن تأثر بالدعوة الإصلاحية للشيخ محمد عبده واتفقوا على نقد ما مارسه الكماليون في السلطنة العثمانية، وحوت مقالاته الكثير من طرائف الحياة الاجتماعية كالمأكولات والمشروبات والمقاهي والمطاعم، ومن أطرفها ما ذكره عن حافظة الماء البارد (التيرموس)التي أهداها له سلطان مسقط ووصفها وصفاً بديعاً، لأنه كان ينقل لقارئه بدعة من بدع الحضارة الحديثة، وكان الرجل مولعاً بشرب الماء مثلجاً، فكان ما كان من حفاوته بالتيرموس. أما عبد الوهاب عزام فكان كتابه عن الرحلة الحجازية مختلفاً، إذ كانت ترنيمة عاشق كشفت له الصحارى والقفار التي مر بها عن معانٍ لا يعيها إلا من أدرك رموز الحج وأسراره، فكتب كتابة تشبه كتابات الأقدمين فكأنك تقرأ صفحة من كتاب الأغاني، يروي أنه رأى أعرابياً تفتر شفتاه عن أسنان ناصعة بيضاء وفي فمه عود فسأله قال: بشام. رد عزام ذاك الذي يقول فيه جرير أتذكر إذ تواعدنا سليمى بعود بشامة؟ سُقي البشام قلت ما هذا، سائلاً عن شجر يقال له السنط في مصر فقال سلم، فذكرت قول الشاعر: ويوماً توافينا بوجه مقسم كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم وكذلك قول الحجاج: والله لأعصبنكم عَصّب السلمة. قال فقلت هل تأتينا بأعواد من البشام. فقال إنه على الريع الآخر يعني سفح الجبل الآخر، فتذكرت الآية الكريمة (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)، ثم عقب من كان يظن أن هذه ألفاظ ميتة في المعاجم فليعلم أنها لا تزال حية في أفواه كثير من العرب. أما طه حسين فعندما زار الحجاز كان بادي التأثر وقال إنه لكل مسلم وطنان، لا يستطيع أحد أن يشك في ذلك، وطنه الذي نشأ فيه، وهذا الوطن المقدس الذي أنشأ أمته وكون قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعاً... لقد كنت أعيش بفكري وعقلي في هذه البلاد المقدسة عشرين عاماً منذ بدأت أكتب على هامش السيرة حتي الآن وهنا أحس أنني أعيش بفكري وعقلي وجسدي جميعاً. أما عبد الهادي التازي فقد ألف كتاباً جامعاً في جزأين أسماه؛ رحلة الرحلات: مكة المكرمة في مائة رحلة مغربية، لخص فيه ما كتبه رحالة مغاربة، ولقد كتب نفسه عن رحلته للحج عام ١٣٧٨، تلك التي عانى فيها معاناة عظيمة مع الحر والحمي وضربات الشمس وكتب عن ذلك يوميات كانت لمعاصرتها شديدة الصدق والجمال ولولا ما طُبع عليه الرجل من عذوبة الروح ورهافة الحس بالفكاهة لكان يصور مشاهد من العذاب ...... ويلاحظ وفرة من كتب عن الرحلات الحجازية من أدباء المغرب ولعل طول الرحلة أحد الأسباب، لدرجة أن عميد أدباء السعودية حمد الجاسر زار الجزائر بحثاً عن مخطوطاتها، وكتب عن الكثير منها في مجلته العرب التي تبقى مرجعاً مهماً لمن أراد القراءة عن الرحلات الحجازية. الأديب المصري جمال الغيطاني أسمى كتابه عن رحلته إلى الحرم حمام الحمي، لم يسر فيه على نهج الرحلات الأخرى، بل اعتمد أسلوب النجوى يبحث فيها عن أثر النبي وصحبه الكرام، ومثل صاحبه طه حسين لم يتمكن من أن يعطي الصحافة تصريحاً تأدباً مع صاحب الرسالة عليه السلام، وكأنما كلاهما كان يود أن يبقى مع نفسه وتأملاته في خلوة. (ها أنذا بين يدي رسول الله من سبح الحصا بين يديه، ولان له الصخر، وحن له الجذع، من حمل الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وما هؤلاء البشر كلهم القادمون لزيارته إلا نَفَراً يسيراً من أمته الإنسانية). أما أحمد شوقي فقد أنشأ قصيدته الرائعة عن أشواقه للحرمين دونما زيارة لهما، إذ إنه لم يحج وجاءت قصيدته على هذا القدر من الروعة فكيف لو أن الله كتب له حجاً. إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله في عرفات ويوم تولي وجهة البيت زائراً وسيم مجالي البشر والقسمات على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات إذا زرت بعد البيت قبر محمد وقبلت مثلي الأعظم العطرات وفاضت من الدمع العيون مهابة لأحمد بين الستر والحجرات وأشرق نور تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة فقل لرسول الله يا خير مرسل أبثك ما تدري من الحسرات إنها معلومات ثرية وحكايات مشوقة عن كتاب جميل سهل القراءة فائق العذوبة يحرك الأشواق إلى الحرمين الشريفين للباحث حسين بافقيه (أفئدة من الناس.. فصول في أدب الحج وثقافته)، حيث يصطحب المؤلف بعض ما كتب عبر التاريخ من كتب عن رحلات الحج، وقد ذكر المؤلف أنه قد تعلق بهذا الأدب منذ أن كان رئيساً لتحرير مجلة الحج، فإن المسلمين ارتبطوا عاطفيا برحلة الحج والعمرة فقد كانت رحلة العمر للمسلمين مُذ أذّن إبراهيم في الناس بالحج (يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)، صورة القادمين إلى مكة راجلين أو راكبين، على جمال قد ضمرت لطول السفر وعناءه، لكن الأشواق تجعل صعوبة الرحلة نوعاً من الرياضة اللذيذة خاصة عندما يصل الحاج إلى مكة ويقف أمام الكعبة أو حين يصل المدينة فتغمره السكينة، حيث تمتلئ النفس بجميل الإحساس أنك تتنفس الهواء الذي تنفس منه رسولك، وتسير في المدارج التي سار فيها.

مشاركة :