أعلن وزير الدفاع الأميركي بالوكالة، مارك إسبر، في 16 يوليو الجاري، أن قوات بلاده في سورية ستبقى إلى أجل غير مسمى، في إطار مهمة الحرب على «داعش» ضمن قوات متعددة الجنسيات. ويمثل هذا التصريح محاولة من جانب الوزير، الذي رشحه البيت الأبيض للمنصب بالفعل، لوضع حد لحالة التخبط التي سادت على مدار الأشهر السبعة الماضية، حول مسقبل الوجود العسكري الأميركي، في ضوء ما أعلنه الرئيس دونالد ترامب، في 19 يناير 2019، من أنه سيقوم بسحب قواته من سورية بعد هزيمة «داعش». وعليه فمن المتصور أن الولايات المتحدة تراجعت خطوة للخلف تجاه قرار الانسحاب، في ظل بقاء التهديدات الميدانية في سورية، على نحو يكشف أن القرار الأول لم يتضمن حسابات أمنية عدة في سورية، وفق بعض التقديرات التي كانت تؤكد ذلك حينها. دوافع عدة يمكن تفسير هذا القرار الأميركي، في ضوء اعتبارات عدة، يتمثل أبرزها في: 1- استمرار الحرب على «داعش» تشير اتجاهات عدة إلى أن إعلان هزيمة تنظيم «داعش» من جانب بعض المسؤولين لم يكن يعبر عن تقديرات سليمة، خصوصاً بعد أن حذرت تقديرات استخباراتية عدة من «العودة الثانية» للتنظيم التي قد تكون، وفقاً لها، أشد شراسة من المرحلة الأولى التي كان التنظيم يهيمن فيها على مساحة واسعة من سورية. وتستند تلك الاتجاهات - في ذلك - إلى أنه بالتزامن مع تصريحات إسبر، كانت القوات الأميركية تقوم بعملية إنزال مشتركة مع «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) في قرية الطكيجي بمنطقة دير الزور الشرقي، التي شهدت اشتباكات على نحو يوحي بأن الحرب على التنظيم لم تنتهِ بعد. 2- عدم التوصل إلى اتفاق بشأن الأكراد وهو ما عبر عنه مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في تصريحات له خلال زيارته إلى إسرائيل في 6 يناير الماضي، قال فيها إن «خروج القوات الأميركية من سورية، يقتضي ضمان وجود اتفاق لحماية الأكراد»، لاسيما في ضوء الخلافات القائمة بين واشنطن وأنقرة في هذا السياق، حيث إن الأخيرة تعتبر «قسد» منظمة إرهابية، وهدفاً لعملياتها في سورية، وكانت تستعد لملء الفراغ الأميركي بعد إعلان ترامب سحب قواته من سورية. ومن المرجح أن هذا الاتفاق تعثر في ضوء التوترات التي تشهدها العلاقات الأميركية – التركية مع تنفيذ صفقة صواريخ «إس 400» بين تركيا وروسيا، ما انعكس بدوره على طبيعة الانتشار المحتمل للقوات الأميركية في شمال غرب الفرات، للحيلولة دون أن تكون هدفاً في طريق القوات التركية. 3- التصعيد مع إيران لاتزال الولايات المتحدة ترى أن الوجود الإيراني في سورية يشكل تهديداً لمصالحها ومصالح حلفائها لاسيما إسرائيل، ولم ينجح اللقاء الأمني الثلاثي الأميركي – الروسي – الإسرائيلي، الذي عقد في 24 يونيو الفائت، في وضع حد لهذا الوجود، ما يرجح أيضاً عدم اتجاه الولايات المتحدة إلى تفكيك قاعدة «التنف» لمراقبة تحركات إيران الحدودية بين العراق وسورية، خصوصاً في ظل تحدي تركيز الوجود الأميركي في العراق على هذا الهدف، وفقاً لتصور ترامب الذي كان يرى أن تحويل القوات إلى العراق يسمح بإعادة انتشارها في سورية سريعاً، في حال عودة «داعش» إلى جانب مراقبة التحركات الإيرانية. طبيعة الانتشار تحفظ إسبر على الإشارة إلى طبيعة الانتشار الجديد لاعتبارات السرية، لكن صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نقلت عن «مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية» قوله إن «جزءاً من القوات الأميركية سيبقى في مدينة منبج بريف حلب الشمالي، حيث سيواصل الجنود القيام بدوريات مشتركة مع نظرائهم الأتراك. في حين تستقر المجموعة الثانية شرق نهر الفرات كجزء من منطقة آمنة بين تركيا وسورية، إضافة إلى مهمة تدريب المقاتلين المحليين. فيما ستبقى فرقة ثالثة في منطقة التنف الجنوبية (عند مثلث الحدود السورية - العراقية - الأردنية)، كجزء من حملة مكافحة (داعش) وحاجز ضد التوسع الإيراني في تلك المنطقة». وتشير طبيعة الانتشار، التي كشفت عنها الصحيفة، إلى توافقها مع الدوافع الخاصة ببقاء القوات الأميركية في سورية، المشار إليها في السابق. كذلك كشفت تقديرات أميركية عن أن هناك قوات أوروبية (متعددة الجنسيات) ستشارك في تلك المهام، ومن المرجح أن يراوح قوامها بين 800 و1500 جندي، بالإضافة إلى القوات الأميركية التي لم يعرف بَعْدُ عددها النهائي من بين 2000 جندي موجودين بالفعل في شمال وجنوب سورية، منهم 400 في قاعدة «التنف». وبالتالي قد يكون هناك تعادل بين القوات الأميركية التي ستبقى في سورية، وبين بقية قوات بعض الدول الغربية التي نجحت الولايات المتحدة في إقناعها بالاستمرار في سورية، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، مع استمرار احتفاظ الولايات المتحدة بقيادتها. أدوار مختلفة يبدو أن القوات الأميركية، وفقاً للتصور الجديد، ستبقى في سورية إلى أجل غير مسمى. وبحساب الأهداف وطبيعة الانتشار، فإن قسماً من هذه القوات يشكل «قوات فصل» للحجز بين القوات التركية والكردية منعاً لاندلاع مواجهات بين الطرفين، وبالتالي قد تكون هناك صعوبة في إنهاء مهمة هذه القوات في الأمد القصير، بسبب الموقف التركي من الأكراد، والذي يفرض وجود ضمانات لا يعتقد أنها ستتوافر في ظل التوتر الأميركي - التركي الحالي. من جهة أخرى، يصعب القول بأن أي مفاوضات أميركية - إيرانية محتملة، يمكن أن تضمن الخروج الإيراني من سورية، فضلاً عن أن الحرب على الإرهاب، في ضوء الخبرات الأميركية بالعراق لفترة طويلة ضد تنظيم «القاعدة» ثم مع ظهور «داعش»، تشير إلى صعوبة القضاء نهائياً على هذه التنظيمات، وبالتالي من المحتمل أن يتحول هذا الوجود إلى حالة بقاء دائم في الأفق المنظور. تراجع واشنطن يمكن القول إن واشنطن بدأت في التراجع عن قرار الخروج من سورية، بالتوازي مع قيامها بعملية إعادة هيكلة لوجودها العسكري في سورية، لا تتعامل مع تطورات عارضة، وإنما ظواهر قائمة وستظل ممتدة في المستقبل، وذلك في إطار إعادة نظر أميركية في الأبعاد المختلفة للحالة السورية التي لاتزال تعبر عن تشابكات معقدة، في ظل صراع لم ينتهِ بعد، كما أن أفق تسويته لايزال بعيد المنال. يصعب القول بأن أي مفاوضات أميركية - إيرانية محتملة، يمكن أن تضمن الخروج الإيراني من سورية، فضلاً عن أن الحرب على الإرهاب - في ضوء الخبرات الأميركية بالعراق - تشير إلى صعوبة القضاء نهائياً على هذه التنظيمات، وبالتالي من المحتمل أن يتحول هذا الوجود إلى حالة بقاء دائم مستقبلاً.ShareطباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :