في كتابه الهام جدا «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» يقول المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري «وهل هناك من تهديد خارجي أكثر استفزازا للذات وأكثر خطورة على الهوية والأصالة والخصوصية من زحف نموذج حضاري على نموذج حضاري آخر». يطرح الجابري فكرته تلك، وهو الخبير في مسألة العلاقة الجدلية بين التراث والتحديث، فللأسف الشديد يضع «عرب اليوم» تراثهم وحضارتهم وتاريخهم بأكمله في مقابل تحديات العصر، وهذا ما جعلهم يهربون من تراثهم لتبني المفاهيم الغربية، وبدؤوا ينظرون لأنفسهم من وجهة نظر غربية، أقرب مثال على ذلك أن وضع «عرب اليوم» أنفسهم في خانة الشعوب السامية، ولغتهم في خانة اللغات السامية، وهذه التصنيفات كما يعلم الجميع هي تصنيفات وضعها المستشرقون وليس لها وجود قبل ذلك، وهي ليست تسمية علمية، وفيها ما فيها من التحيزات. إن خرافة اللغات السامية منتشرة بكثرة في أقسام اللغة العربية في العالم العربي، بل هي التسمية الأساس التي من خلالها ننظر لأنفسنا في مقابل لغات الشعوب الأخرى، والقضية لا تقتصر على مسألة اللغة وحسب، بل إن أقسام اللغة العربية تحولت لسوقٍ لعرض النظريات الغربية، وتحولَ اللغويون إلى مجرد أدوات لتوصيل وتسويق المناهج الغربية، أحيانا عن وعي وغالبا عن غير وعي، بحجة مواكبة العصر ودراسة اللغة دراسة علمية حديثة، حتى غدت تسمية (قسم اللغة العربية وآدابها) تسمية غير دقيقة والأقرب للصواب هو (قسم الدراسات الغربية). انشغلت أقسام اللغة في العالم العربي ومنذ الثمانينيات الميلادية بدراسة اللغة والأدب عن طريق مناهج البحث الغربية بدايةً بالبنيوية والتفكيكية وما بعد البنيوية واليوم التوليدية والتداولية، وطبعا هذا التواجد المفرط للنظريات الغربية في أقسام اللغة العربية ارتبط بنظرة مليئة بالازدراء بأدب اللغة العربية وعلومها التي غالبا ما يطلق عليها مصطلح (التراث)، ويحمل هذا المفهوم نظرة إقصائية تصور نتاج الحضارة العربية الإسلامية العلمي والأدبي وكأنه ينتمي للماضي وليس له مكان في الحاضر ومكانه الطبيعي هو المتحف، فهذا التراث لم يعد صالحاً للعصر الحديث، كما يرون. هذه النظرة المليئة بالازدراء لنتاج الحضارة العربية والإسلامية لم يقتصر على لغويين جدد قليلي الخبرة، فاللغويون المخضرمون واللغويون الجدد يشتركون في هذه النظرة، حتى صار لزاماً علينا اليوم أن نعيد النظر في أدوار أقسام اللغة العربية التي لا تصب في مصلحة التحديث بقدر ما تعزز التبعية الثقافية، وتكرس أكثر وأكثر في هزيمتنا النفسية أمام الآخر. إن التحيز مسألة حتمية في مناهج البحث في العلوم الإنسانية، وكل ظاهرة إنسانية - وفي مقدمتها اللغة - تحوي تحيزات أهلها وثقافتهم وتاريخهم، فهي بالتالي لها خصوصيتها وملامحها الفريدة التي يصعب تطبيقها في أكثر من بيئة ثقافية، فالعلوم الإنسانية مهما بلغت من تجرد وموضوعية ومهما استخدمت من إحصائيات وأشكال هندسية فلا بد أن تحوي تحيزات أصحابها. إن تبني مناهج البحث الغربية في علوم الإنسان يعني السقوط في تحيزات الآخر المختلف، وفي هذا الشأن يقول عبدالوهاب المسيري: «كل الأمثلة السابقة تبين أننا تركنا تراثنا وتبنينا تراث الآخر الغربي بكفاءة عالية، وذلك من دون فهم لمدلول ما نفعل ومن دون أن نقوم بعملية نقدية إبداعية لتراثنا ولتراثهم ولحضارتنا ولحضارتهم. لقد تبنينا نموذجهم الحضاري الحديث والتهمنا منتجاتهم الحضارية التي وضعناها في بيئتنا التي تتصارع معها، فكنا كالمُنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى». نعرف جميعا بأن العلم لا وطن له، نقصد هنا أن دراسة الظواهر الطبيعية ليست مرتبطة بالضرورة بالخلفية الفكرية والثقافية والتاريخية للباحث، فالعلوم الطبيعية منفصلة عن تاريخها، بعكس الظواهر الإنسانية التي تختلف دراستها جملة وتفصيلا عن حال العلوم الطبيعية. وكلنا نعرف تلك العلاقة العضوية المتينة بين اللغة والفكر، فدراسة اللغة تختلف باختلاف الثقافة والتاريخ والنظرة للكون، ولكن في أقسام اللغة العربية وبسبب نقلنا لطرائق ونتائج المدارس الغربية وتطبيقها بصورتها الأصلية على واقعنا وأفقنا، حتى توزع الباحثون العرب بين المدارس، فهذا من المدرسة الفرانكفونية وذاك من المدرسة الأنجلوسكسونية وهؤلاء من المدرسة الأميركية البراغماتية (التداولية)، وكلهم ـ بفضل الله - يدرسون اللغة العربية والأدب العربي دراسة موضوعية علمية حديثة لمواكبة العصر. قبل أن أختم لا بأس بطرح هذه الفكرة الذكية جدا التي طرحها عبدالوهاب المسيري في كتابه الهام، العالم من منظور غربي «بدأ كثيرٌ من العلماء العرب يشعرون بأن المناهج التي تُستخدم في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماماً، بل يرون أنها تعبر عن مجموعة من التحيزات الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث من دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب معها التخلص منها. هذه التحيزات هي التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، بل وتقرر كثيرا من النتائج».
مشاركة :