بقي الإعلام اللبناني مهنياً في خطابه منذ نشأ. ترفَّع عن الشتائم، والحسّ المذهبي والطائفي. الحرب الأهلية بكل ضراوتها، وطائفيتها وأحقادها، عجزت عن جرّ الإعلام اللبناني إلى لغة الحارات والأزقة. وحتى حين نشأت قنوات تلفزيونية وصحف جديدة في ساحة هذا الإعلام خلطت الرأي بالخبر، واستعذبت الإثارة، واللغة الحزبية، رفضَ الإعلام التقليدي مجاراتها. لكن المشهد اليوم تبدّل. أصبح الخبر في صحف لبنانية عريقة، يبدأ بصيغة «يبدو أن»، و «لا شك في أن». صار النص الذي يُنشر على الصفحة الأولى، ويُقرأ في بداية نشرات الأخبار على محطات التلفزيون، خليطاً من الآراء، ونتف المعلومات، غاب الخبر. كنا في الماضي نضطر إلى قراءة وسماع كل وسائل الإعلام اللبنانية، حتى نعرف وجهات النظر المختلفة على الساحتين اللبنانية والعربية. اليوم صرنا نعاود الشيء ذاته لكي نعرف المعلومات وليس الآراء والمواقف. أصبح بعض الإعلام اللبناني أشبه بعراك في حارة شعبية. استبدل الشتيمة، والصوت المرتفع والعبارة الحادة، بالمهنية والرصانة والحوار. وغيَّب معايير الخبر، ورسب في امتحان اللغة. صارت المقالات بيانات محكومة بوجهة نظر واحدة، غاب التنوع. غُيِّبت الحرية التي ميَّزت هذا الإعلام، وعلى مدى عقود. انجر بعض إعلام اللبنانيين إلى التوتر، وتجاوز الأعراف والأصول المهنية، ولم يعد وسيلة اتصال. صار سوط وصاية. واستبدل التحريض بالمعلومات وإثارة الأسئلة. وضرب صفحاً بتقاليد المهنة. وبات يُجبِر الناس على ما يريد وما يرى. الإعلام اللبناني الذي تعلّمنا منه صناعة النص الموضوعي، اختلطت في بعضه الأشكال الصحافية، على نحو يُعدّ سابقة في الضعف المهني، وتحولت نصوصه إلى ملاحم ذاتية. بعد بداية «عاصفة الحزم»، ومن قبلها الحرب في سورية، كشف بعض الإعلام اللبناني عن ميل مُفرط إلى الدعاية السياسية. وساوى بين الإشاعات والمعلومات، وانضم إلى مسيرات الهتاف والتثوير، واستبدل التحريض بالإعلام. الترهُّل المهني في وسائل الإعلام، وخلط الرأي بالخبر، واعتماد لغة دعائية، باتت مشكلة عامة في الإعلام العربي. لكن تحوُّل وسائل الإعلام إلى ما يشبه الأحزاب، وتبنّي أجندات محدّدة أصبحا سمة لبعض الإعلام اللبناني. ونحن اليوم أمام قنوات فضائية وصحف لبنانية تمارس قلب الحقائق، وتزييف الوعي، وإشاعة الكراهية. لا شك في أن بعض الإعلام اللبناني فرّط بالموضوعية، وهو يتحمّل وزر إشاعة ثقافة الانتقام والتحريض بين العرب. والأسوأ أنه ساهم بجدارة، لا يُحسد عليها، بنقل هذه العدوى إلى بعض إعلام السعودية ودول الخليج، وصنَعَ حالاً من الاصطفاف المذهبي الخطير. الأكيد أن بعض الإعلام اللبناني أصبح يفرض خياراته على بلد بأكمله... فضلاً عن أنه هزم مبدأ التعايش، وخَطَفَ لبنان من محيطه العربي.
مشاركة :