الفلسفة اليونانية من النشوء والنضوج إلى الذبول

  • 7/30/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يبدأ الفيلسوف والعالم يوسف كرم مؤلفه التأريخي "تاريخ الفلسفة اليونانية" الذي أعادت الدار المصرية اللبنانية نشره بتقديم وشرح وتعليق المفكر د. مصطفى النشار، بتوضيح موقفه من قضية نشأة الفلسفة، حيث يرى أنه على الرغم من أن لدى أمم الشرق نظرات فلسفية، وأنه يمكن أن نجد لكل فكرة يونانية مثيلة شرقية، إلا أن أمم الشرق وخاصة الفرس والهنود قصروا مهمة النظر العقلي على تمحيص الدين وإصلاحه ولم يوفقوا إلا بعض التوفيق في تبيين ماهية الفلسفة وإقامتها كعلم مستقل. وينتقل بعد ذلك إلى عرض للفكر اليوناني السابق على الفلسفة وخاصة عند هوميروس وهزيود والديانات السرية والحكماء السبعة. يرى يوسف كرم أن الفلسفة اليونانية مرت بثلاثة أدوار: دورة النشوء، ودور النضوج، ودور الذبول. وكان كل دور على وقتين. لذا فقد قسم كتابه إلى ستة أبواب. يقول "يبدأ الدور الأول بالوقت المسمى عادة بما قبل سقراط، وهو يمتاز بمحاولة تفسير العالم، وفيه وضعت أسس الفلسفة النظرية. والوقت الثاني وقت السوفسطائيين وسقراط وبعض تلاميذه، ويمتاز باتجاه الفكر إلى مناهج الجدل وأصول الأخلاق، وفيه وضعت بذور الفلسفة العلمية. والدور الثاني يملؤه أفلاطون وأرسطو. اشتغل أفلاطون بالمسائل الفلسفية كلها، من نظرية وعلمية، ومحصها وزاد عليها وبلغ إلى حقائق جليلة؛ ولكنه مزج الحقيقة بالخيال والبرهان بالقصة. فلما جاء أرسطو عالج المسائل بالعقل والصرف، ووفق إلى وضع الفلسفة بأقسامها الوضع النهائي. والدور الثالث لا يبين عن كبير ابتكار. وإنما هو يفيد من المذاهب السابقة فيجددها ويعدل فيها. فيتجه الفلاسفة أولا إلى الأخلاق بتأثير الشرق، ويجعلون منها محور الفلسفة ثم يشتد تأثير الشرق فيرى الفلاسفة أن يرتفعوا بالفلسفة إلى مقام الدين والتصوف؛ ويساهم الشرقيون في الفلسفة بلغتها اليونانية. ويشير كرم إلى إن أول اتجاه الفكر إنما يكون إلى الخارج يطلب حقيقة الأشياء. فإما أن يستوقفه التغير، وهو بالفعل أعم وأخطر ظاهرة في الطبيعة، سواء أكان عرضيا أي انقلاب الشيء من حال إلى حال، أم جوهريا أي تحول الشيء إلى شيء آخر، كتحول الغذاء إلى جسم الحي، والخشب إلى الرماد، فيدرك أن الأجسام على اختلافها مصنوعة من مادة أولى هي محل التغيرات، فيبحث عن هذه المادة التي تتكون منها الأجسام، ثم تعود إليها. وإما أن يعني بما في تركيب الأجسام من نظام، وفي أفعالها من اطراد، ويعلم أن النظام في العدد، فيتصور العالم تصورا رياضيا. وإما أن يرى في ذات فكرة التغير تناقضا، إذ يبدو له التغير صيرورة من لا شيء، ومن شيء إلى لا شيء، فينكره ويقول بالوجود الثابت. وتلك هي الوجهات الثلاث التي يمكن تبنيها في الوجود، وهي: الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية، والوجهة الميتافيزيقية. ويضيف أنه من الغريب أن قد وفق اليونان إلى الكشف عن هذه الوجهات الثلاث لأول اشتغالهم بالفلسفة، فظهرت ثلاث مدارس متعاصرة لكل منها مزاج ومذهب. ظهرت مدرسة في أيونية عالجت العلم الطبيعي: ثلاثة من رجالها نشأوا في ملطية، وهم طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس، ورابع نشأ في أفسوس، هو هرقليطس. ولكن الفرس أغاروا على أيونية وأخضعوها، فانتقلت الحياة العقلية إلى إيطاليا الجنوبية وصقلية، فنبغ هناك فيثاغوراس صاحب الوجهة الرياضية، وظهرت المدرسة الإيلية القائلة بالوجود الثابت. ثم نشأ فلاسفة أخذوا من كل وجهة بطرف وحاولوا التوفيق بينها، وهم انبادوقليس وديموقريطس وأنكساغوراس. ويذكر كرم أن لكل من هؤلاء أو لمعظمهم كتاب بعنوان "فن الطبيعة" أي في الجوهر الأول الثابت تحت التغير والتحول. وليس يعني هذا أن أصحابها كانوا يسمونها بهذا الاسم، فإن المؤلفات النثرية القديمة لم تكن تعنون، وإنما كان الكاتب يذ¬كر اسمه ويشير إلى موضوع كتابه في العبارة الأولى، وقد قلنا إن موضوعهم كان تفسير الوجود. ضاعت تلك الكتب جميعا؛ وظلت أخبار أولئك الفلاسفة ناقصة، وتواريخهم تقريبية. ونحن نعرفهم مما يرويه عنهم أفلاطون وأرسطو، ومن تراجم دونت في عهد متأخر، واختلط فيها الخيال بالحقيقة، ومن عبارات لهم جمعت من متخلف الكتاب القدماء. ويرى أنه بالرغم من عناية الفيثاغوريين بالأخلاق، والإيليين بالمبادئ العقلية والجدل، كان الفكر اليوناني في الدور الأول متجها نحو العالم الخارجي مستغرقا فيه. أما العالم الداخلي الذي هو مصدر الأخلاق وموطنها، وأما العقل الذي هو مصدر المعرفة ومستقرها فلم يعن بهما بالذات. ولكنه لم يلبث طويلا حتى طرأ عليه أحوال ساقته إلى الانشغال بهذه الناحية من الفلسفة. ذلك أن جماعة من معلمي البيان، سموا بالسوفسطائية، تشككوا في العقل وفي أصول الأخلاق، حاربهم سقراط، والتف حوله تلاميذ، فخاضوا كلهم في مسائل جدلية وخلقية كونت مواد الفلسفة العملية، وكان هذا التطور مطابقا للتطور الطبيعي في الفرد ينظر أولا إلى الخارج ولا يتجه إلى الداخل إلا فيما بعد. ويخلص كرم من تناوله لحياة وأعمال أفلاطون في الباب الذي خصصه له إلى أن أفلاطون جمع في شخصه كل مزايا العقل اليوناني فأبلغها إلى أقوى وأبهى مظاهرها: الجرأة والتؤدة، الحدس والاستدلال، العاطفة والملاحظة، الفن والرياضة. واستوعب جميع الأفكار، فمحصها إلى حد بعيد، وسلكها في نظام واحد بديع. وأحسن جميع النزعات الروحية، فاستخلصها من الأرفية وسائر الأسرار، ووضحها وأحالها معاني عقلية، فنقل الدين إلى الفلسفة: قال إن المطهرين الذين تتحدث عنهم الأسرار ما هم إلا الذين يعانون بالفلسفة بمعناها الصحيح، وأن الفلسفة هي التي تخلص النفس وتدخلها النعيم وأعلى كلمة الفلسفة فوق كل كلمة. فكان بكل هذه المزايا أحد ينبوعي حكمة نهلت منه العقول من أيامه إلى أيامنا، ولن تزال ترده إلى ما شاء الله. والينبوع الآخر تلميذه أرسطوطاليس. أما الأكاديمية فتولاها من بعده قريب له اسمه اسبوسيبوس. وخلفه اكسانو قراطيس. والاثنان أحالا الفلسفة رياضية على حد قول أرسطو. وتوالت على المدرسة حظوظ شتى. وبقيت قائمة إلى سنة 529 أي إلى أن أغلق يوستنيانوس المدارس الفلسفية بأثينا. أما رؤية يوسف كرم لأرسطوطاليس والذي خصصه أيضا بباب كامل فتقول "أعطانا أرسطو حدودا وتعاريف لا تحصى في جميع فروع المعرفة، وهدانا إلى حقائق لا تقدر. صنف العلوم، واشتغل بها علما علما فكان "المعلم الأول" في كل منها، وخلف لنا كتبا كانت ولا تزال أصولا لا غنى عنها ولن تزال مرجع المفكرين. ويضيف أنه لم يكن لمدرسة أرسطو في الزمن الأول نفوذ يذكر، وكانت متهمة بالميل إلى مقدونية ومضطهدة، حتى اضطر ثاوفراسطوس إلى الرحيل عن أثينا، بعد أن ترأس المدرسة من سنة 322 إلى 287 وهو في الخامسة والثمانين. وكان أكثر اشتغاله واشتغال إخوانه بالعلوم الطبيعية وتأريخها بوحي أرسطو وإشرافه. فيما يذكر من كتب ثاوفراسطوس "آراء الطبيعيين" و"تاريخ النبات"، وأبحاث في العرق والتعب والدواء والإغماء والشلل والرياح وعلامات الجو والأحجار والنار وغيرها، ولم يصل إلينا سوى عنواناتها؛ ورسائل في المنطق. وعلى الخصوص القضايا الموجهة والأقيسة الشرطية؛ ورسائل في الفلسفة الطبيعية والإلهية، وفي السياسة والخطابة. وله كتاب مشهور في الآداب العالمية وهو كتاب "الأخلاق" أي وصف أخلاق الناس من الوجهة النفسية، وكتابات أدبية كانت موضع إعجاب المتقدمين. ومن إخوانه "أوديموس" مؤسس فرع المدرسة في رودس، وضع كتابا في تاريخ الهندسة والحساب والفلك بقيت منه صحف مهمة جدا لتاريخ هذه العلوم. و"مينون" أرخ الطب و"فانياس" أرخ الشعر والمدارس السقراطية. و"ديقايرخوس" أرخ المدينة اليونانية، ووضع كتابا في الجغرافية اسمه "سياحة في الأرض". و"أرسطوقسانس" كتب في تاريخ الموسيقى وفي الآلات الموسيقية وفي مبادئ الألحان. وأشهر رجال الجيل الثاني استراتون اللمبساقي، خليفة ثاوفرسطوس على المدرسة مدة 18 سنة (توفي حوالي 270) وكان قد قضى زمنا في الإسكندرية ببلاط بطليموس سوتر (من سنة 300 إلى 294) يؤدب ابنه فيلادلف. ذهب في بعض المسائل الطبيعية مذهبا أقرب إلى ديموقريطس منه إلى أرسطو، فقال بالخلاء؛ وأنكر الأمكنة الطبيعية، وقال إن النفس هواء، ونقد حجج أفلاطون في خلودها، وفسر الفكر بأنه إحساس ضعيف. ويرى يوسف كرم أنه بعد وفاة الإسكندر (سنة 323) وتجزؤ ملكه انتشرت الثقافة اليونانية في بلدان البحر المتوسط، وتعارف العالم اليوناني والعالم الشرقي، وتأثر كل منهما بالآخر، وساهم الشرقيون - ولا سيما الساميون منهم ـ في العلم والفلسفة، وقامت في الشرق حواضر علمية جديدة في مقدمتها الإسكندرية وبرغاما ورودس، مع بقاء أثينا مركز الفلسفة. ولكنه دور تناقض فيه الإبداع الفلسفي، وعكف رجال على تجديد المذاهب القديمة، مع عناية خاصة بالأخلاق تبعا لمواقف سقراط وللفكرة الأساسية عند أفلاطون. فجدد أبيقورس مذهب ديموقريطس، وجدد الرواقيون مذهب هرقليطس، وأغرب تلاميذ "صغار السقراطيين" في تعاليمهم وفي سيرتهم. وكأن العقول قد شاخت والنفوس تراخت، فضعفت الثقة بالعقل، ونبت مذهب الشك وطغى على الأكاديمية نفسها. على أن لهذا الدور فضلا كبيرا على العلوم والصناعات. فقد كان القرن الثالث قبل الميلاد من أخصب عصور العلم القديم، نشأ فيه أخصائيون عنوا بتمحيص المعارف الموروثة وتهذيبها والريادة عليها، وتوالى العمل على هذا المنوال إلى نهاية العصر القديم. نذكر من رجال هذا القرن الثالث أقليدس (330 – 270)، صاحب "مبادئ الهندسة" جمعها ورتبها وعلم بالإسكندرية. وأرشميدس السراقوصي (287 - 212) جاء الإسكندرية في شبابه، ولكنه قضى معظم حياته في وطنه. كان يجمع بين النظر والعمل؛ له أبحاث عويصة في الرياضيات، وله اختراعات كثيرة، منها آلات حربية، ومرايا محرقة، وآلة سماوية تمثل الحركات الظاهرة للأفلاك بدقة عجيبة. وأرسطوخوس الساموسي الفلكي الكبير الذي قال إن الشمس مركز العالم. يشار إلى أن الباب الأول يتحدث عن نشأة الفلسفة النظرية فيعرض الفصل الأول منه لفلسفة الأيونيين؛ طاليس وانكسيمندر وانكسيمانس وهيراقليطس. ويعرض الفصل الثاني للفيثاغوريين ومذهبهم وعلومهم، والثالث عن الأيليين: اكسانوفان وبارمنيدس وزينون وميليسوس، وفي الرابع يعرض لفسلفة أنبادوقليس وديمقريطس وانكساغوراس. وينتقل الكتاب في الباب الثاني للتأريخ لنشأة الفلسفة العملية فيتحدث في فصلين متتالين عن السوفسطائيين وسقراط، وفي الفصل الثالث يتحدث عن صغار السقراطيين. ثم يخصص الباب الثالث للحديث عن أفلاطون وفلسفته. وفي الباب الرابع للحديث عن أرسطو وفلسفته. وأما الباب الخامس فيؤرخ فيه للفسلسفة والأخلاق والقرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الأول قبل الميلاد حيث تحدث عن المدارس السقراطية الصغرى الميجارية والكلبية والقورينائية. ثم عن أبقوروس وفلسفته، ثم عن الفلسفة الرواقية وعن الشكاك واتجاهاتهم الشكية المختلفة. أما الباب السادس فقد خصصه للتأريخ للفلسفة والدين من القرن الأول الميلادي حتى القرن السابع عبر سبعة فصول غطت الحديث عن الغنوسية، واليهودية، والفلسفة اليونانية، والمسيحية والفلسفة اليونانية، وذلك عن الأفلاطونية الجديدة وخاصة أفلوطين، واختتم هذا الجزء بالحديث عن شراح أرسطو: الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وسمبليقوس ويوحنا النحوي.

مشاركة :