بدأ أفول إمبراطورية حزب الله في أمريكا اللاتينية من دولة الأرجنتين التي أقدمت على تصنيف هذا الحزب كمنظمة إرهابية، في سابقة هي الأولى من نوعها في القارة، بعد توالي المحاولات الرامية إلى تحجيم نفوذه؛ من خلال تجميد أصول 14 فردا من عشيرة بركات، وهي عائلة كبيرة يقول مسؤولون إنها على صلة وثيقة بحزب الله. تزامن صدور هذا القرار مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي الأرجنتين، الذي شارك في ورشة عمل في بوينس آيرس بشأن مكافحة أنشطة حزب الله في نصف الكرة الغربي، التي تأتي ضمن سياق حملة دولية لدفع أكبر عدد من الدول إلى تضييق الخناق على وكلاء النظام الإيراني، ومع إحياء الذكرى 25 لتفجير مركز للجالية اليهودية في العاصمة خلّف مقتل 85 شخصا وأكثر من 300 جريح. كانت أعين السلطات في الأرجنتين تترصد تحركات أعضاء هذا التنظيم منذ سنوات، حيث فتحت الأجهزة المختصة تحقيقات حول مختلف الخيوط التي تشكل محاور الشبكة التي يتحرك فيها الموالون للحزب، ممن ينشطون في المثلث الحدودي المشترك بين الأرجنتين والبرازيل والباراجواي، الذي تحول إلى ملاذ لجميع أنواع الجريمة المنظمة "تمويل الإرهاب وغسل الأموال وتجارة السلاح والاتجار في الممنوعات...". من المؤكد أن يكون لهذا القرار ما بعده في بعض العواصم المجاورة، فالتحقيقات كشفت عن انتشار أنصار حزب الله في معظم بلدان القارة، بفضل قواعد المهاجرين من ذوي الأصول اللبنانية المنتشرين حول العالم، ممن يقدرون بنحو 13 مليون شخص، وهو مجتمع ضخم للغاية مقارنة باللبنانيين في الداخل، ما أدى في النهاية إلى إرساء دعائم إمبراطورية كبيرة، شرع في تأسيسها منذ ثمانينيات القرن الماضي. يتعزز طرح انتقال عدوى التصنيف إلى بقية الدول التي ينشط فيها الحزب، بأكثر من مؤشر، في مقدمتها انحياز معظم القادة في بلدان أمريكا اللاتينية إلى صف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي يخوض حربا ضروسا ضد كل الأذرع التي يستند إليها النظام في طهران، للالتفاف على العقوبات الأمريكية، ناهيك عن توارد عديد من الوقائع في هذه الدول تعضد هذه الفرضية، فعلى سبيل المثال قامت البرازيل قبل أشهر باعتقال أسعد بركات رجل الأعمال اللبناني، المصنف من كبار مسؤولي التمويل في حزب الله لدى الدوائر الأمريكية. وبررت الشرطة ذلك بعودة الرجل إلى أنشطته المشبوهة في البرازيل والأرجنتين والشيلي، بعد خروجه من السجن في باراجواي، حيث اعتقل قبل عشر سنوات. تبحث دولة البيرو من جهتها، منذ أواخر عام 2016، في فرضية وجود علاقة تعاون بين عملاء حزب الله ينشطون في جمعية شيعية محلية وتنظيمات تابعة للحزب الشيوعي البيروفي "الدرب المنير، موفاديف، فوديب" شاركت في أعمال عنف في البلاد. لم يبق أمام ممثلي الحزب مع اشتداد الخناق حولهم سوى فنزويلا، التي ترى في حزب الله ومن على شاكلته من التنظيمات حلفاء لمواجهة النظام الإمبريالي العالمي، ما دفع نظام الرئيس الراحل تشافيز هوجو إلى احتضان رموز حزب الله، والعمل على تسهيل حركيتهم في القارة، بمنح هؤلاء وثائق باسم الدولة الفنزويلية، زيادة على منح عناصر الحزب جزيرة مارجريتا، التي تقع قبالة سواحل فنزويلا، كملاذ آمن لعناصر الحزب. استمر الوضع على حاله مع نظام الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي تلقى تهديدات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بالوضع على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، بعدما صرح هوجو كارفاخال رئيس المخابرات الفنزويلية الأسبق، في آذار (مارس) المنصرم، باستضافة البلد معسكرات يتم فيها تدريب عناصر حزب الله. سهلت هذه الرعاية الطريق أمام أنصار الحزب للوصول إلى مجتمعات الجريمة المنظمة في أمريكا الجنوبية، فالتحقيقات تكشف تورط عملائه في أعمال مشبوهة وعمليات غير مشروعة، من أجل ضمان التمويل الكافي لتنظيم أخطبوطي شعاره إشاعة الفساد والخراب في الأرض بعد صلاحها. خشية الوقوع تحت طائلة القانون والعقوبات، عمدت شبكات عمل حزب الله إلى المزج بين الأنشطة الشرعية والإجرامية في شبكات عمل مختلطة، من أجل تصعيب مهمة تتبعها، وكان أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط من العمل هو الشبكة الضخمة التي أسسها أيمن جمعة رجل الأعمال اللبناني الكولومبي، فقد كانت تجمع بين التجارة في الممنوعات بالتعاون مع عصابة "لويس زيتاس" المعروفة، وشراء السيارات المستعملة من أجل درء الشبهات عنها. تكفي الإشارة إلى عملية "كاسندرا" التي تم تدشينها سنة 2008، واستمرت لأكثر من ثماني سنوات؛ لمعرفة مستوى لعب المغلوبين على أمرهم أيديولوجيا وطائفيا، إذ قادت الجهود الأمريكية؛ وفق بعض التقارير، لتعقب شبكات يشتغل فيها الحزب للوصول إلى نتيجة مفادها قيام حزب الله بعمليات غسل أموال بقيمة تقترب من 500 مليون دولار خلال هذه الفترة. هذا حصاد متابعة عملية واحدة فقط، ما يعني أن مزيدا من المتابعة والرصد سيكشف لا محالة أنشطة محظورة جديدة في سجل هذا الحزب، لكن المؤكد هو أن الحجم الحقيقي لإسهام هذه الشبكات في موازنة حزب الله وقدراته المالية غير معلوم بشكل كبير. ثمة حقيقة مؤكدة مفادها أن الضغوط غير المسبوقة التي يتعرض لها الحزب، وتوافق معظم الدول في أمريكا اللاتينية على تحجيم عمله، جهود من شأنها التأثير في هذا التنظيم المذهبي الطائفي العابر للقارات، لكنها حتما لن تستطيع إيقافه، ما لم تسقط عنه المظلة السياسية الفعالة التي وفرتها له دبلوماسية نظام الملالي في طهران في عديد من دول أمريكا الجنوبية.
مشاركة :