إذا كانت دول وشعوب منطقة الخليج العربي قد تأثرت، أكثر من غيرها، بزلزال الثاني من أغسطس 1990، فإنه يمكن الوقوف دون كثير عناء عند إشارات دالة بتزامن ذلك مع تغيّر الوضع العالمي، وليس أكبر من سقوط المعسكر الاشتراكي بتفكك الاتحاد السوفياتي، وتهاوي وسقوط جدار برلين، مما أوجد عالم القطب الواحد، وبشّر باجتياح شبكة الإنترنت للحدث الإنساني، وتبع ذلك نتائج متتالية على أقطار الوطن العربي وصلت لما أطلق عليه «ثورات الربيع العربي»، والتي ما زالت نتائجها قائمة وفاعلة ومتفاعلة حتى وقتنا الراهن. وهو ما أثر ويؤثر على عموم مناحي الحياة، وفي المقدمة من ذلك تأتي الحياة الفكرية والإبداعية والثقافية. إن مقولة «قرية كونية» ومقولة «العولمة الثقافية»، ما كانتا تحملان دلالتهما الناجزة لحظة ميلادهما قبل قرابة العقود الثلاثة، ولقد أنكر ملايين البشر فكرة أن يصغر العالم ليكون قرية كونية، وتصدى ملايين من المتعصبين حول العالم لفكرة العولمة والثقافية. لكن الواقع كان أصدق وأقدر تحققاً من كل التقولات والنظريات. فبعد اجتياح مواقع شبكة الإنترنت للعالم، ومعها محركات البحث، وبعد شبكات التواصل الاجتماعي، وبعد التلفون النقال الذكي، صار ملايين الملايين حول العالم سكاناً للقرية الكونية، ودخلت العولمة الثقافية بكل ثقة وهدوء إلى كل حي وبيت ورأس فرد، وهذا ما أوجد واقعاً إنسانياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً وفنياً ورياضياً جديداً. واقعاً إنسانياً جديداً طبع العالم بوسم اللحظة العابرة وثقافة اللحظة العابرة ولسان اللحظة العابرة، ومفردة اللحظة العابرة وأخلاق اللحظة العابرة وإيجابيات اللحظة العابرة ومساوئ ومخازي اللحظة العابرة. ما يهمنا في هذا المقال، هو التركيز على التغيّر الذي طال الحياة الثقافية. وأول ملامح هذه التغير هو نمطيته بوجوده في الأقطار العربية قاطبة، فالجميع يعيش مناخات القرية نفسها بقوانينها وشرائعها، ويحيا مستهلكاً منتجاتها، والجميع، بشكل أو بآخر، وبدرجة أو بأخرى، تقولَب وفق العولمة الثقافية، وصار يلبس اللباس والحذاء نفسه، وينطق المفردة نفسها، ويقرأ ويتداول الكتاب ذاته، ويستعمل التلفون عينه، ويأكل من مطاعم المدينة نفسها. وبالتالي ما ينطبق على الحياة الثقافية في الكويت، هو بالضرورة متشابه، إلى حد ما، مع ما يحدث في مصر أو لبنان أو العراق أو السعودية أو المغرب أو سورية أو الإمارات أو عمان أو تونس والجزائر والسودان وبقية الأقطار العربية، مع حفظ الفروقات المالية الاقتصادية. ففي الدول قاطبة تقهقرت وذابت سطوة الأحزاب والمجاميع الحزبية، ومعها انمحى وجه الأديب المعروف، الأديب المؤدلج، ذي النتاج الإبداعي المتراكم والمشهود له محلياً وعالمياً، الأديب الرمز، الأديب الواجهة، الأديب صاحب التوجه الفكري والإبداعي المعروف. ويبدو من نافلة القول الإشارة إلى تقهقر واندحار الشعر السياسي وانحصار موجة الخطابة الشعرية في البرامج التلفزيونية وصفحات الجرائد والمجلات، ومع الشعر تقهقرت إلى حد ما القصة القصيرة وانزوى المسرح والتشكيل، وصعد بدلاً من هذا وذاك حضور معارض الكتب العربية ببرامجها الثقافية، وما تبعها من انتشار عنقودي لدور النشر العربية، وتحديداً الشبابية، ولمع ودوّى نجم الجوائز الأدبية العربية، وعلى الأخص جوائز دول الخليج العربي، وتحديداً جوائز الرواية وتالياً القصة القصيرة. هذا مجتمِعاً، وتأثراً بالعولمة ووسائل الإعلام «سوشيال ميديا-Social Media» أنتج جيلا من الكتّاب الشباب، جيلا مختلفا بإمكانياته وقناعاته وأفكاره وطموحاته وعلاقاته وحساباته الشخصية، جيلا يركض للنشر ويركض للرواية ويركض للجوائز ويركض للشهرة ويركض لشللية ودوائر علاقات مغلقة. وإذا كان هذا مشروعاً وليس من اعتراض عليه، فإنه أنتج مشهداً إبداعياً ثقافياً عربياً مغايراً تماماً لما كان قائماً، وأحد أبرز تمثلاته تتضح من خلال غياب الكاتب المعروف برصيده الإبداعي التراكمي، ومنجزه الإبداعي المتفق عليه لدى جمهور القراءة والنقد والدرس الأكاديمي. كما أن الحضور الأكبر لهذا الجيل يتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي منصات لحضوره والترويج لنتاجه الأدبي. وهذا يأتي بالتعاون مع دور نشر جديدة، جعلت من الدعاية للأعمال هماً يفوق جودة الأعمال نفسها. لقد تشظى المشهد الإبداعي الروائي والقصصي، وربما الشعري والمسرحي، وصار يصعب على القارئ والناقد والدارس الوقوف أمام كم هائل من الكتابات اليومية التي لا سبيل إلى حصرها.
مشاركة :