«خسائر» أحمد مجدي همّام تصنعها اللحظة العابرة

  • 4/16/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بعد قراءة قصص «الجنتلمان يُفضّل القضايا الخاسرة» (روافد للنشر والتوزيع)، يكتشف القارئ أنّ كاتبها الشاب أحمد مجدي همّام استعان بحيلة أسلوبية حين اختار أن يُقدّم نصوصه على أنّها «تمارين». وصفٌ يوحي بأنّ الكاتب لا يأخذ كتابته القصة على محمل الجدّ. فالمجموعة بقصصها التسع: «كيف تثقب وجهك بقصيدة؟»، «الشطحة الأرمينية»، «الملط»، «نوفيللا عن أبي، أقصوصة عن أمي»، «حرامي ولاّعات»، «الحادثة النارجوشية»، «الرجل الذي أطرى عليه (زي وانج)»، «الأستاذة»، «الجنتلمان يُفضّل القضايا الخاسرة»، تُعطي انطباعاً بأنّها كُتبت بعفوية من يتمرّن على الكتابة، لكنّها في الوقت عينه تتّسم بكثافة وعمق يدلاّن على حرفية في كتابتها. تطرح قصص أحمد مجدي همّام قضايا متعددة، تبدو في ظاهرها بسيطة ومضحكة، لكنها تعكس في الواقع عالماً نفسياً معقّداً يعيشه شباب مصر بعد ثورة يناير، بحيث الأحلام ظلّت مهددة، إن لم نقل مُجهضة. فالكاتب يصنع في قصصه مناخاً «خانقاً» يتحرّك فيه الإنسان ضمن فضاء من الفراغ، أو الأصحّ قولاً «العطالة». تتباين الشخصيات في مواصفاتها وخلفياتها ومعارفها، لكنها تبقى في معظمها شخصيات مأزومة، بل مكسورة نتيجة مصادفات يومية، فيها ما يكفي من التفاهة والعبثية. يلعب الزمن، وإن كان مكثفاً، دوراً جوهرياً في «الجنتلمان يُفضّل القضايا الخاسرة». فالمصادفات تصنع المفاجآت، واللحظة يُمكنها أن تحدّد مصائر كاملة. مقالب صبيانية وأحداث عابرة وصدف غريبة، أمور تُحدّد مسارات أبطال أحمد مجدي همّام. كأنّ الأحداث العابرة أو التفاصيل الصغيرة، من شأنها أن تتحكّم بالحياة البشرية وتُعيد صياغتها، إن لم نقل تقلبها رأساً على عقب. وهذا ما نلمسه في قصة «الرجل الذي أطرى عليه زي وانج» مثلاً، بحيث يتحوّل أحمد محرز (التمرين السابع) إلى مناضل كبير لمجرّد أن التقت به مذيعة تلفزيون في لحظة ما، في مكان ما (صندوق الاقتراع، أثناء الانتخابات). يقول أحمد مجدي همام، في ما يُشبه التوطئة، إنه كتب قصصه بعد قراءة نصائح كبار الكتّاب لتخطّي محنة «الورقة البيضاء»، فعمد من ثمّ إلى اختيار أسماء عدّة، عشوائياً من أجندة التلفون، ليكتب عن كل واحد منها ما تيّسر. لذا نشعر أنّ أبطاله هم من لحم ودم. يروي الكاتب حكاياتهم عبر تقنية «التذكّر»، ويكتقي لهذا الغرض بعدد محدود من الشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة. مصادفات الحياة تختلف القصص في موضوعاتها وأحداثها وأبطالها، لكن «الإنسان» يبقى أهم ما يربط بينها. لكلّ قصة بطلها، بمواصفات نفسية ولغوية وجسمانية خاصة. مايكل عاطف (التمرين الأول)، هاوٍ للشعر يتعرّض لموقف محرج أمام أصدقائه وزبائن المقهى، عندما «تثقب» الناشطة الحقوقية «المسترجلة» وجهه بـ «قصيدة» زعم أنّه كتبها لها، وهي للشاعر أسامة الدناصوري الذي قرأت له كلّ قصائده. وأيمن صلاح في «الحادثة النارجوشية» (التمرين السادس)، هو الشاب الذي يهوى المراسلة وينشر عنوانه في إحدى المجلات العربية ليحظى بعدد أكبر من الأصدقاء، إلى أن يقع ضحية مقلب ساخر يقلب حياته. أما محمود كويتي في «الملط» (التمرين الثالث)، فهو الصديق المصري الذي قضى وقتاً في الكويت حتى تخصّل بخصال أهلها وصار يتشبه بهم، صورةً ولغةً... جميعهم، وإن كانت لهم أسماء معروفة، فإنّ ألقابهم تصير أشهر من أسمائهم: «حودة، شيكو، النارجوشي، الكويتي...». كأنّ الكاتب أراد، إضافة إلى الحسّ الساخر في العمل، أن ينقل أجواء مراهقة عاشها مع أصدقاء عاد إليهم عبر النبش في «دفتر التلفونات». وهي فترة يكون فيها الشاب عادةً على سجيّته، يتصرّف بعفوية ويتكلّم بلا زيف أو تصنّع. يُقدّم الكاتب شخصياته غير التقليدية بألسنتها. يختار لها لغة تحاكي نبض الشارع المصري اليوم. وقد تكون اللغة في كتاب أحمد مجدي همّام، من أهمّ العناصر الواجب دراستها لما فيها من بساطة تبلغ حدّ التجريد، وتحرُّر يصل حدّ التدمير. تدمير الحواجز اللغوية والتراكيب النثرية والأساليب السردية. فيُزاوج القاصّ بين العامية المصرية والعربية الفصحى والإنكليزية المتداولة بجرأة تُعزّزها كلمة «تمارين»، التي يُصرّ عليها الكاتب. «صفقت لها كثيراً لما انتهت، قلت لها برافو وقبّلت يدها، وجلست هي تستريح»، أو «يتفرّس فيك من فوق لتحت، يُقرّر أن شكلك فاهم وابن ناس، ثم يهمس بتواطؤ محبب: الست المجنونة دي عايزة تعمل محضر لجارتها عشان بتصدّر لها طاقة سلبية». استعادة التاريخ قد تكون أجواء القصص عبثية في شكل من أشكالها. معظم الأبطال، بمن فيهم الراوي، شباب غارق في فراغه. هم يُدخنون الحشيشة و»يُنمّر» بعضهم على الآخر، يتنابذون بالألقاب، ولا يرحم أحد صديقه حين يتعلّق الأمر بالمُزاح والسخرية. لكنّ قصصاً منها تظلّ معبأة بالرموز والدلالات، وبعضها يفتح كوّة على التاريخ علّه يُضيء واقعنا المشوّش. ماجدة ميخيتاريان، هي المرأة الأرمينية في التمرين الثاني «الشطحة الأرمينية»، وقد عاد الكاتب من خلالها إلى قضية الأرمن والمجازر التي ارتُكبت في حقهم والتهجير الذي لحق بهم، معرّجاً على المجتمع المصري في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، حين كانت الإسكندرية، على وجه التحديد، مدينة كوزموبوليتية يتخالط فيها المصريون والإيطاليون والأرمن. وإذا كانت الأقصوصة معروفة بزمنها المكثّف في اللحظة، فإنّ هذه القصة تجنح صوب الامتداد الزمني، ما يجعلها أقرب إلى السرد الروائي. وهو حين يحكي قصة هذه المرأة، يُعلن الراوي/ الكاتب رغبته في أن يكتب عنها رواية تمتد في الزمن لتُقارب بين مصر الأمس واليوم. «طبعاً أنا اعتبرتها لُقطة، شخصية روائية بامتياز، بوسعي أن أكتب عنها رواية ضخمة، بكعب يملأ العين، بوسعي مثلاً أن أتتبّع تاريخها منذ جدها الرابع، المولود في مدينة أرضوم التركية، متعقباً بداية المذابح سنة 1894، حيث أخذ حال الأسرة في التدهور، وصولاً الى جدها لأبيها ستيبان ميخيتاريان، العضو الناشط في حركة الطاشناق الثورية، والذي قُتل في المذابح عام 1915، وعُلّق على الصليب، وهو ما حدا بأسرته وإخوته للفرار» (ص 15). الكاتب في هذه المجموعة هو الراوي نفسه، مستخدماً ضمير المتكلّم. إنه يحكي عن أبيه «همّام» مرة في «نوفيللا عن أبي... أقصوصة لأمي»، ويُسمّي نفسه مرة أخرى «بن همام روائي برتبة مارق» (ص 92). وهذا يُضفي على جوّ القصص مزيداً من الواقعية. لا أظنهاصدفة أن تشكل الخسارة تيمة هذه المجموعة. وإذا كان الكاتب اختار قصصه انعكاساً للواقع، فإن «خساراته» ليست سوى صدى انكساراتنا وخساراتنا في عالم تذوي فيه الأحلام قبل أن تتحقق.

مشاركة :