يكثر الحديث عن الخطر الذي بدأ يداهم البشر بسبب الأحوال الجوية القاسية، والآخذة في التردي من عام إلى آخر، فيما يحذّر العلماء من عواقب بيئية أكبر إن لم تتخذ الإجراءات اللازمة. وبينما يتجادل قادة العالم حول التوقيت والكيفية اللذين يجب أن يتم من خلالهما التعامل مع مشكلة المناخ، لم يتطرقوا إلى العلاقة بين التغير المناخي والنزعات الديموغرافية، إلا أن البعض من الخبراء يدعون إلى ضرورة السيطرة على عدد السكان في العالم، لما لذلك من دور مهم في معالجة مشاكل المناخ، وقد يبدو مثل هذا الحل صغيرا لكنه مهم لمعالجة مشكلة عالمية خطيرة. قرارات عاجلة يعتقد الخبراء أن اتخاذ بعض القرارات العاجلة والمتسرعة قد يفوق القدرة السياسية والاقتصادية للحكومات. ويرى جورغن راندرز، الأستاذ الفخري في استراتيجية المناخ بكلية بي.آي النرويجية للأعمال ومؤلف كتاب “2052: نظرة مستقبلية للعالم في السنوات الأربعين القادمة”، أن “العالم لن يصل إلى حل مشكلة المناخ في القرن الحالي، لأن الحل سيكون على المدى القصير أعلى تكلفة من تقبل الأمر الواقع”. في المقابل شجّع جون غوليبود، البروفيسور في الصحة الإنجابية بكلية لندن الجامعية، الرأي القائل إن الأسرة متعددة الأفراد مدمرة لصحة البيئة. كما دعا في افتتاحية له بالمجلة الطبية البريطانية إلى ضرورة تشجيع الآباء والمدارس والأطباء على تطوير برامج التعليم، من أجل شرح كيف يمكن أن يؤدي ارتفاع عدد السكان إلى التدهور البيئي، وكيف تساعد العائلات التي ليس لديها أكثر من طفلين في بقاء عدد السكان ثابتا أو التخفيض منه. وقال غوليبود “يجب علينا أن نشرح للأزواج في المملكة المتحدة الذين يخططون لإنشاء أسرة بضرورة التوقف عند طفلين، وهذه أبسط وأكبر مساهمة يمكن أن تجعل كوكب الأرض صالحا للعيش لأحفادنا”. وأضاف “علينا أن لا نضغط على الناس، ولكن من خلال المعلومات المتوفرة حول السكان والبيئة، ووسائل منع الحمل المناسبة للجميع، يجب أن يساعد الأطباء في تحقيق حجم الأسرة الذي يحترم الالتزامات الأخلاقية تجاه البيئة”. ورغم أن النمو السكاني كان على مدار الأعوام الماضية مجالا مثيرا للجدل في الأوساط البيئية، ولكن المعدلات شهدت انخفاضا في السنوات الأخيرة، وذلك بسبب قدرة الموارد الطبيعية على استيعاب المزيد من المواليد رغم التوقعات المغايرة، وكذلك بسبب قيام الدول الغنية بتصوير النمو السكاني على أنه مشكلة كبيرة لإخفاء حقيقة زيادة الاستهلاك في المجتمعات الغربية. ودعا إليا زولو، المدير التنفيذي للمعهد الأفريقي لسياسة التنمية، الذي يتخذ من نيروبي مقرا، إلى ضرورة الاستثمار في مجال تنظيم الأسرة في الدول الأكثر فقرا بسبب التوقعات بزيادة المواليد فيها بصورة كبيرة قبل نهاية القرن الحالي. واعتبر الناشط البيئي والمذيع البريطاني ديفيد آتينبارا أن تكوين أسرة كبيرة في العدد تصرف غير مسؤول في العالم المزدحم حاليا بالسكان، محذرا من أن الأجيال المقبلة ستعيش حياة أقل صحة وسعادة، لأن مصادر الأرض تتقلص وتختفي. وأظهر آتينبارا دعما لسياسة الطفل الواحد التي استمرت في الصين لعقود من الزمن ولكنها تراجعت عنها لترفع الحد الأقصى لعدد الأطفال إلى اثنين في عام 2016، في مسعى لضخ دماء شابة في المجتمع الذي يعد الأكبر عالميا من حيث عدد السكان مع نحو 1.4 مليار نسمة. لكن ثمة فرق بين برامج تحديد النسل القسري الذي قد تفرضه بعض الحكومات وبين الجهود الرامية لإبطاء النمو السكاني السريع، إذ تستهدف برامج تحديد النسل الإجبارية خيارات الأفراد الشخصية التي يمكن أن يتخذها الزوجان في حين تعمل جهود إبطاء معدل النمو السكاني من خلال الأطر المجتمعية القائمة، وهدفها إحداث التغيير طواعية وليس قسرا. وانتقدت صحيفة الغارديان البريطانية، حملة “اثنين كفاية” التي أطلقتها الحكومة المصرية في فبراير 2019، لمواجهة الزيادة السكانية في البلاد، وقالت إنها حل غير مجد أو عملي لتحجيم الانفجار السكاني.واعتبرت الصحيفة أن خطة مصر مشابهة للخطة التي طبقتها سنغافورة تحت شعار “التوقف عند اثنين” في السبعينات. وقدمت الغرديان نصيحة في افتتاحيتها للسلطات المصرية بالاستمرار في هذه الخطة لكن بحذر، والتعلم من تجربة كل من الصين وسنغافورة، اللتان تعلمتا أن تراجع معدل المواليد المرغوب فيه يمكن أن يكون له عواقب غير متوقعة. وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2018، ارتفاع عدد السكان في مصر إلى 96.3 مليون نسمة. وأشار الجهاز إلى أن العدد ارتفع من 94.8 مليون نسمة في 2017، إلى 96.3 مليون نسمة في بداية 2018، أي بزيادة 1.5 مليون نسمة عن بيانات آخر تعداد. وثمة تكهنات بأن يواجه العالم مشكلة انفجار سكاني خطير، إذ سيرتفع عدد سكان العالم إلى عشرة مليارات نسمة بحلول العام 2050، مما قد يجعل مليارات البشر يصارعون الجوع والعطش ونقص الطاقة والعشوائيات. وتتوقع لجنة مستقلة من خبراء التغذية والزراعة أن يتدهور الوضع بشكل كبير خلال السنوات الـ20 المقبلة مع زيادة عدد السكان، وهو ما قد يسبب سوء التغذية لنصف سكان العالم. وسيكون هناك مليار شخص آخرين بحاجة للطعام في أفريقيا وآسيا بحلول العام 2050، وتقول اللجنة إن أفضل الأدلة تشير إلى أن تغير المناخ سيؤدي أيضا إلى وفاة أكثر من نصف مليون حالة إضافية، معظمهم في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وذكرت اللجنة أن الدراسات العالمية قد أظهرت أن المحاصيل الزراعية تتأثر سلبا جراء تغير المناخ في المناطق الاستوائية حيث ينتشر الجوع على نطاق أوسع، على الرغم من أنها تقر بأن إنتاجياتها يمكن أن تزيد في أماكن أخرى. وحذرت اللجنة من نسب أكسيد الكربون التي ستزيد في الغلاف الجوي على محتويات الزنك في الحبوب والدرنات والبقول، ويمكن أن تعرض 138 مليون شخص آخرين لخطر جديد من نقص الزنك. لكن في الوقت الذي يؤكد فيه خبراء علم الاجتماع أن معدلات الزيادة السكانية في الدول لها عوامل متعددة، تربط إحصائيات الأمم المتحدة معدلات الزيادة السكانية بالدول النامية ذات المستويات المنخفضة من الدخل، بالنسب المرتفعة من الفقر والجهل والأمية. وتشير توقعات منظمة الأمم المتحدة إلى أن 49 دولة نامية ستشهد نموا سكانيا بمعدل ثلاثة أضعاف، ليرتفع عدد سكانها خلال الفترة ذاتها من 668 مليون نسمة إلى 1.86 مليار، ولن يبدأ عدد السكان بالتراجع إلا خلال النصف الثاني من القرن الحالي بفعل انخفاض معدل الولادة. واعتبر البعض من خبراء المناخ أن الحد من نمو السكان مهم جدا في ما يتعلق بالموارد الطبيعية وحقوق المرأة والتدهور البيئي، ولكن البعض الآخر لا يرى أنه يمثل حلا لمشكلة التغير المناخي، لسبب بسيط هو أن أكثر الدول المسببة للانبعاث الحراري من أقلها في معدلات النمو السكاني، ومشكلة التغير المناخي ناجمة بالأساس عن الإفراط في الاستهلاك من جانب الأغنياء. فيما اتخذت بعض الحكومات في الشرق الأوسط مثل إيران وتركيا موقفا معارضا لدعوات تنظيم الأسرة، وبالتحديد سياسات تحديد النسل، باعتبارها مشروعا غربيا يهدف إلى تقويض المجتمعات الإسلامية، وإضعاف القوى البشرية فيها من أجل القضاء على نسلها والسيطرة عليها. أزمة متفاقمةغير أن الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة بيّنت أن عدد السكان والتركيبة الديموغرافية للمجتمعات تمثل عوامل رئيسية لتغير المناخ، وسببا مباشرا في مخاطر التدهور البيئي، فلكل إنسان على سبيل المثال، مقدارا خاصا من الكربون يستهلكه سواء أثناء رحلاته بالقطار أو الطائرة، أو حتى عندما يشغل جهاز التلفزيون أو هاتفه الذكي، ويعرف هذا بالبصمة الكربونية التي تحدد إجمالي الغازات الدفيئة الناتجة عن تأثير الأنشطة البشرية، وما يستهلكه الناس من أجهزة إلكترونية ومنزلية وملابس وغيرها من المواد والنشاطات اليومية الأخرى المسببة للتلوث البيئي. ويمثل إنتاج الطعام سبب ربع انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري ويساهم بشكل كبير في ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، بحسب ما خلصت إليه دراسة أجريت في جامعة أكسفورد البريطانية. ودلت نتائج الدراسة أن اللحوم وغيرها من المنتجات الحيوانية مسؤولة عن إنتاج أكثر من نصف الانبعاثات الغازية المتأتية عن الأطعمة التي يتناولها البشر، بالرغم من أنها لا توفر لمتناوليها أكثر من خمس (20 بالمئة) عدد السعرات الحرارية التي يتناولونها. وتوصلت الدراسة أيضا إلى أن لحوم البقر والغنم هي الأكثر إضرارا بالبيئة من كل الأطعمة التي جرى تحليلها. ومن النتائج المثيرة للاهتمام، ما كشفت عنه دراسة أميركية نشرتها دورية “رسائل البحوث البيئية” بعد تتبعها انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن السكان في 13.000 مدينة، فقد بينت أن سكان 100 مدينة فقط يساهمون بنسبة 20 بالمئة من البصمة الكربونية للبشرية ككل. وتعادل هذه النسبة المقدار الذي تسهم به الانبعاثات الصناعية على مستوى العالم، وهو الأمر الذي يؤكد أن البشر يسهمون بدرجة كبيرة في ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون عن مستوياتها الطبيعية. وتبدو البصمة الكربونية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء ضئيلة مقارنة بما يتسبب فيه سكان المدن الكبرى بالبلدان الغنية، فعلى سبيل المثال يتسبب سكان مدينة سول، عاصمة كوريا الجنوبية، في نحو 45 بالمئة من انبعاثات الكربون الكلية رغم النمو السكاني السلبي لهذا البلد الآسيوي، أما في المملكة المتحدة فتسهم مدن لندن ومانشستر وبيرمنغهام بما يزيد على 20 بالمئة من الانبعاثات الكلية على مستوى البلاد، فيما ينتج عن سكان شيكاغو ونيويورك ولوس أنجلس في الولايات المتحدة الأميركية ما مجموعه 10 بالمئة. ورغم أن انبعاثات الكربون تزداد مع تزايد أعداد السكان بالمدن الكبرى وارتفاع مستوى الرفاهة، فإن النمو السكاني السريع الذي تشهده منطقة أفريقيا جنوب الصحراء له أيضا أثر واضح جدا على البيئة، فالأنظمة البيئية مثل الغابات الاستوائية المطيرة، تتدهور بوتيرة سريعة، كما أن الممارسات الزراعية الجائرة تنهك التربة وتفقدها خصوبتها. ومثل هذه الآثار السلبية قابلة للتفاقم وتهدد بفقدان الحياة النباتية والتنوع الحيوي، وقد تقود إلى مجاعات وحروب طاحنة، إذا ما استمرت الزيادة السكانية في أفريقيا على النحو المتوقع. ويرى الخبراء أنه في إمكان الدول الأفريقية تغيير مساراتها الديموغرافية والتنموية إلى الأفضل، إذ ما عملت على تطبيق ثلاث استراتيجيات رئيسية تتعلق، بالعمل على توفير خدمات تنظيم الأسرة إلى جميع السكان، نظرا لما أثبتته من فعالية في خفض عدد المواليد في صفوف الفئات السكانية الفقيرة وغير المتعلمة والريفية، فزيادة بقدر 15 نقطة مئوية في معدل انتشار وسائل منع الحمل، كفيلة بإحداث انخفاض بمعدل مولود لإجمالي عدد المواليد للمرأة العادية. وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يمكن أن تؤدي زيادة بنسبة 45 نقطة مئوية في استخدام وسائل منع الحمل إلى خفض معدل الخصوبة الكلي من 4.7 إلى 1.7 طفل، وهذا من شأنه خفض معدل النمو السكاني للمنطقة إلى ما دون مستويات الإحلال. أما الإجراء الثاني فيكمن في بذل المزيد من الجهود لتأخير سن الزواج والحمل للفتيات، لأن الفتاة التي تضع مولودها الأول وهي في سن الـ15، سيكون عدد أولادها أكبر بكثير من المرأة التي تضع مولودها الأول وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وكلما تأخر سن الزواج، زادت فرص الفتيات في التعليم والتنمية وبالتالي سينعكس ذلك إيجابيا على أسرهن ومجتمعاتهن. أما الإجراء الثالث، فيكمن في توفير فرص التعليم للفتيات إلى ما بعد المرحلة الابتدائية، فقد أثبتت التجارب أن المرأة التي تحصل على فرص تعليم جيدة تكون أكثر وعيا بأهمية وسائل تنظيم الأسرة وسيكون لها في العادة عدد أقل من الأطفال، علاوة على أن ذلك سيمنحها المزيد من الفرص والامتيازات لتحقيق تطلعاتها المهنية وضمان حصولها على وظيفة لائقة في حياتها. وكشفت إحصائيات دولية أن التحسن في التحصيل العلمي لدى الفتيات في الـ50 عاما الماضية كان عاملا رئيسيا في دفع عجلة النمو الاقتصادي في البلدان المتقدمة، وأتاح للمرأة المزيد من الفرص، بالاعتماد على ما اكتسبته من مؤهلات علمية، ومما لا شك فيه أن تنفيذ هذه المبادرات السياسية المهمة سيقود حتما إلى تخفيض معدل النمو السكاني بطرق أكثر كفاءة وبعيدة كل البعد عن الإجراءات الحكومية القسرية التي ترغم الناس على أشياء لا يرغبون فيها.
مشاركة :