أدّى النشاط المتزايد الذي يقوم به الإرهابيون في ليبيا إلى لفت الأنظار من جانب بعض الدوائر السياسية، التي لم تُخْف قلقها من تصاعد معدلاته مؤخرا. كما فرض التصعيد الجديد على العديد من مراكز الأبحاث تسليط الضوء عليه وإخضاعه للتحليل، لأن عملية القضاء على الأنشطة المسلّحة الخارجة على الشرعية والقانون، بدأت تأخذ طابعا ممنهجا في ليبيا، ويتم تغليفها بغطاء رسمي من قبل حكومة الوفاق ورئيسها فايز السراج. دخل السراج في مناوشات حادة الثلاثاء والأربعاء مع غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا، بعدما ألمح الثاني صراحة إلى الدور الذي تلعبه حكومة الأول في دعم الميليشيات والعصابات المسلحة، في شهادته أمام مجلس الأمن الدولي، وهو ما يعتبر تطورا متقدّما في موقف سلامة، ومحاولة للفرار من الوقوف في صفّ واحد بجوار السراج ومعاونيه من القوى الإسلامية المتشددة. وبدأت قضية الميليشيات تثير نفورا من القوى التي تتعاون معها، ووجد المبعوث الأممي نفسه في خندق واحد معها، بما عطّل مهمته السياسية. ويمثّل التغيّر الظاهر في موقف سلامة علامة على تحوّل في بعض المسارات، ودلالة على أنّ المجتمع الدولي لن يصمت على الدور السياسي الكبير الذي تلعبه الجماعات الإرهابية. تظلّ عمليات التقتيل والانتقام التي تقوم بها تنظيمات متطرّفة ومرتزقة وجماعات تتبنّى العنف علانية، واحدة من التحديات التي تعوق الأمن والاستقرار في ليبيا، وسيبقى التدهور مستمرا وعرضة للتفاقم ما لم تتحرّك الجهات المسؤولة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات حاسمة وصارمة ضد كل من يأوي ويدعم ويؤيد الحركات الإرهابية، خاصة أنّ دولة مثل تركيا لم تعُد تنكر دورها في دعم الكتائب المسلحة، وتسعى ليكون لها موطئ قدم على بعد المئات من الكيلومترات من حدودها، في خرق سافر لمكوّنات الجغرافيا السياسية. ورصد المؤشر السنوي للنشاط الإرهابي في ليبيا، الصادر عن مؤسسة بوابة أفريقيا الإخبارية للإعلام والنشر في مئة صفحة مصحوبة بصور ورسومات، جملة من العلامات المعبّرة عن المدى الذي وصل إليه الإرهاب في ليبيا، فقد تغلغل في مفاصل الدولة، وباتت عملية اجتثاثه بحاجة لتكاتف الجهود المحلية مع الإقليمية والدولية، وما يقوم به الجيش الوطني الليبي حاليا حقق نجاحات واضحة في التخلّص من تمدّد بعض التنظيمات المسلحة في الشرق والجنوب، ولن يتوانى عن استكمال مسيرته لتنظيف البلاد من البؤر الإرهابية الظاهرة والكامنة في طرابلس والغرب عموما. أنشطة إرهابية متعددةضمّ التقرير الصادر بعنوان “جغرافيا الدم.. النشاط الإرهابي في ليبيا 2018″، ثلاثة أقسام رئيسية. الأول اهتم بالإرهاب المحلّي، وركّز الثاني على نشاط تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وعالج الثالث ما يوصف الآن بحرب تركيا على ليبيا، واتخذت مسارات سرية في البداية، لكنها تحوّلت إلى حرب مُعلنة ومفتوحة، بعد أن سلك تعاونها مع الإرهابيين طريقا لا يخجل من تقديم المعدّات والبشر علنا، ولم يعبأ بتحذيرات بعض القوى الفاعلة. اقتصر التقرير على معالجة الأحداث والتطوّرات ما قبل العام 2018، ووجد أن خارطة النشطات الإرهابية في ليبيا في ذلك العام أقلّ دموية من الأعوام السابقة، لكنّه لم يرصد التصاعد الجديد في العنف والذي شهده العام الجاري، بعد شروع الجيش الليبي في تحرير طرابلس من قبضة الإرهابيين وصدّ هجماتهم التي طالت قطاعات واسعة من المدنيين، وما يتلقاه هؤلاء من تدفقات للأسلحة، فضلا عن استقبال الآلاف من الإرهابيين القادمين من سوريا وبلدان أخرى، بترتيبات متقنة من الحكومة التركية. حوى التقرير جزءا حيويا عن السفن التي سيرتها تركيا إلى بعض شواطئ ليبيا، ورصد باستفاضة تحركات ومناورات أنقرة السياسية والعسكرية لضمان نجاح نقل مشروع الجهاديين إلى شمال أفريقيا عبر أراضي السودان، قبل عزل الرئيس عمر حسن البشير، الذي مثّل خسارة إستراتيجية لتركيا وحركتها في منطقة شمال وشرق أفريقيا والبحر الأحمر، ورغبتها في الهيمنة على مقاليد مناطق عدّة. وأرخى تحوّل ليبيا إلى ساحة لاستقبال الإرهابيين بظلاله على الأجندة السياسية التي تتبنّاها الأمم المتحدة، وأحرجها منذ فترة تجذّر الدور الذي يقومون به، وأفضى إلى تعثّرها لعقد الملتقى الوطني الجامع في أبريل الماضي، بل وأقلق تعاون مبعوثها مع جماعات مؤدلجة دوائر إقليمية كثيرة، خشيت من فرض العصابات المسلحة لنفوذها على البلاد. لقيت العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر ارتياحا كبيرا، وحصلت على تأييد من قوى دولية كبرى، لأنها تعدّ المدخل الذي يمكن أن يقصف ظهر المراكز الحيوية للإرهابيين، والتي أصبحت تزعج بعض الدول الأوروبية الواقعة في شمال المتوسط، فضلا عن الولايات المتحدة التي ضاعفت من تحرّكاتها لتقويض الميليشيات في ليبيا، ومنحت الضوء الأخضر للجيش الوطني لمواصلة عملياته لتجفيف منابع الإرهابيين. تكتيكات متطورةطوّر الجيش الليبي من عملياته العسكرية قبل أيام، واستهدف بعض الأماكن التي تحفّظ على الاقتراب منها سابقا، مثل مصراتة، أملا في التوصّل لتفاهمات سياسية مع قياداتها وشيوخها، بما يحدّ من دور الكتائب المسلحة التي تتخذ من بعض أراضيها مركزا لعملياتها العسكرية ودعم حكومة الوفاق في خطواتها المؤيدة لتيار الإسلام السياسي، وجرى توظيف مطار الكلية الحربية في مصراتة بصورة أخلّت بمهامه التدريبية التي تخدم أهداف الجيش الليبي وليس أغراض جهات أخرى تريد تفكيكه والنيل منه. قال المحلل السياسي الليبي عبدالباسط بن هامل لـ “العرب”، إن المكان الذي جرى استهدافه في مطار مصراتة مؤخرا عبارة عن غرفة عمليات رئيسية تابعة لتركيا ومتعدّدة المرامي وتخدم الإرهابيين، وبها إمكانيات مسلحة تدعم مجموعاتهم الممتدة على الطريق الساحلي من مصراتة وحتى طرابلس. وأكد “الجيش الليبي يملك بنكا كبيرا للمعلومات العسكرية عن الميليشيات، ويتعامل مع الإرهابيين وفقا لخطة مدروسة ليس فيها استثناء لأحد أو لمكان، طالما تمثّل خطرا على الدولة الليبية، وسوف يستمر في هذه السياسة حتى يُنهي تماما خطوط الإمداد التي تمثّل رافدا للعصابات المسلّحة وتقطع الطريق على أهداف من يستغلونها سياسيّا وعسكريّا”. وشدّد التقرير على أن العشرات من الكتائب الإسلامية المتطرّفة مازالت تنشط في البلاد وتسيطر على مراكز هامة في الدولة وأقاليمها، محذّرا من خطورة التنظيمات الإرهابية العابرة للدول والتي مازالت تتخذ من ليبيا قاعدة رئيسية لنشاطها. وقدّم قائمة نوعية بأسماء الجماعات الإرهابية والتنظيمات المسلحة في ليبيا، وببليوغرافيا مُوجزة عن العديد من قادتها، الذين لقوا حتفهم، أو ألقي القبض عليهم، أو مازالوا يمارسون دورهم على امتداد ليبيا، ومنح فصلا كاملا لتنظيم داعش وعملياته القذرة. على الرغم من إنهاء وجود داعش المركزي في مدينة سرت منذ 2016، فإنّ خلايا داعش- ليبيا موجودة أيضا في مناطق أخرى من البلاد، واستمرت مجموعات مختلفة في الاستفادة من حالة عدم الاستقرار السياسي في العمل على تأسيس وجود طويل في ليبيا. وأشار التقرير إلى أن الحكومة الليبية الراهنة تفتقر إلى إستراتيجية شاملة لإدارة الحدود الجغرافية، ولم تتمكّن من تأمين آلاف الأميال من الحدود البرية والبحرية في البلاد، ما سمح بالتدفّق غير المشروع للوقود والسلع والأسلحة والآثار والمخدرات والمهاجرين والمقاتلين الإرهابيين الأجانب الذين يشكّلون خطرا.فرضت هذه المعطيات العمل على إتاحة الفرصة لمزيد من التحركات التي تقوم بها المؤسسة الأمنية النظامية، ممثّلة في الجيش الوطني والأجهزة الشرطية التي تتعاون معه، لأن بقاء الحال على ما هو عليه سوف يفتح الباب للمزيد من العمليات الإرهابية، وبالتالي تهديد حياة المواطنين في طرابلس وغيرها من المدن الحيوية. بعث التغيّر في الخطط والتكتيكات التي يتبعها الجيش الليبي بقيادة المشير حفتر، برسائل متعدّدة لمن يهمهم الأمر، مؤكدة أن المؤسسة العسكرية عازمة على مواصلة دورها في التخلّص من الكتائب المسلحة، ولن تسمح للإرهابيين بالعمل في طول وعرض ليبيا، وسيتم حصارهم وتطويقهم من جهات مختلفة لتسهيل مهمة القضاء عليهم. أخذت عمليات سدّ المنافذ البحرية تتزايد بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، وحقق استهداف الطائرات التركية المسيّرة تفوّقا كبيرا أفقد المطارات المُستخدمة فعاليتها، بما انعكس سلبا على الأداء العسكري لحكومة الوفاق والمتحالفين معها سياسيا، لأن معركة الإرهاب لن تجد من يواصلون الدفاع عنها طويلا. وهي الثغرة التي عززت مكانة الجيش الوطني، فهناك أوساط كثيرة ترى أنه يقوم بمهمة نيابة عن العالم في حربه ضد التنظيمات الإرهابية. قدّم التقرير توثيقا مهما وذخيرة معلوماتية جيّدة للباحثين وكل من يريدون التعرف على خارطة الدم وتطوراتها في ليبيا منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وتورط بعض القوى السياسية في التعاون والتنسيق مع إرهابيين، بما يدحض محاولات التنصّل من هذه العلاقة، فسوف يأتي يوم لرسم المعالم النهائية للتسوية من دون جلوس مع من مارسوا أشكالا متباينة للعنف، ومن تلطخت أياديهم بدماء الشعب الليبي.
مشاركة :