من أهم سمات الشخصية العربية، ما يمكن تسميته تناغم الهُوية أو انسجامها التي شكلت ملامحها عوامل موضوعية منها الجغرافيا والتاريخ والموروث الإجتماعي والثقافي والصفات العِرقية والنَفسية، على رغم تمتع المجتمعات العربية بخصوصية تميز كل منها على حدة. ويعتبر عامل اللغة أحد أهم عناصر مُكون الهُوية خصوصاً عندما تصبح اللغة ليس فقط مجرد وسيلة اتصال إنما تعد أيضاً أداة لبناء الفكر والحضارة. على مر العصور، وعلى الأقل مذ أدرك العرب أهمية توحدهم في مواجهة التحديات الخارجية مثل الاستعمار التقليدي وأشكال الاستعمار الجديد (نيوكولونياليزم)، كانت اللغة حافزاً إيجابياً في تشكيل الفكر الجمعي من خلال الثقافة والإعلام والفنون. واستخدمت القوى الناعمة ومنها الكلمة سلاحاً فعالاً في مقاومة المحتل، لا سيما عندما قررت الشعوب حصولها على الإستقلال. كما يعتبر الدين إطاراً جامعاً لمحددات ماهية الهوية المشتركة بين الناطقين باللغة العربية، إذ قام بتكريس قيم أخلاقية ميَّزت الشخصية العربية عموماً والاسلامية تحديداً عن غيرها. ولم يكن العالم العربي بما فيه شبه الجزيرة العربية ومصر والشام، سوى مراكز تنوير لعبت دوراً حضارياً، وكانت مهداً لديانات سماوية تهدي البشرية إلى الحق والعدل والسلام. وإذا كان التاريخ يؤكد تقدم الثقافة العربية على الغرب الأوروبي في العصور الوسطى، فإن هذا يجبرنا اليوم على إعادة قراءته، وإجراء دراسات وبحوث مستفيضة ترصد عوامل التأخر بعد حال الإزدهار التنويري والحضاري للعرب. ومن وجهة نظري، ترجع عوامل التأخر بالدرجة الأولى إلى عدم التمسك بوحدة الهوية، والإنسياق وراء دعاوى التغريب التي لم يؤخذ منها، إلا ما هو ضار، ما أدى إلى "تفرنج" ظاهري لبعض أبناء لغة الضاد في القرنين التاسع عشر والعشرين! في السنوات الخمسين الأخيرة، تحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة، وهو تطور إيجابي في حد ذاته، جعل الإعلام التقليدي والبديل أو الجديد، يتخطى الحدود. غير أنه وقع في المحظور عندما غضَّ الطرف عن دور المرشحات أو الفلاتر الفكرية – إذا جاز التعبير– في ظل نشوء عوالم إفتراضية، تضع كل شيء، إيجابياً كان أو سلبياً عند اطراف أصابع المتلقي، بلا رقيب أو حسيب داخلي أو خارجي. ما يعنينا هنا، أنه نتيجة الثورة التي حدثت في شكل متلاحق في وسائط الاتصال، استبدلت الأجيال الجديدة في وطننا العربي هويتها الذاتية بهوية أخرى إلكترونية إفتراضية تحكمها قيم بعضها قد يكون بناءً، ولكن كثيراً منها هدام يتجاهل ثوابت الإعتقاد الجمعي الذي يسمى "سياسياً" القومي أو العروبي، ما أثَّر على ملامح الشخصية العربية وأضعفَ فكرة الإنتماء للوطن. وانعكس هذا التوجه، على كثير من وسائل الإعلام في عالمنا العربي، لاسيما الإذاعي والمتلفز، فأصبح الإعلام في معظم الأحيان مستقبِلاً وليس مُرسِلاً، وعندما يقرر أن يرسل يتحرك في دائرة مغلقة، لا يخاطب فيها إلا ذاته. ووقع الإعلام العربي في خطأ أنه لم ينتهز فرصة الانفتاح على العالم ليقدم هويته إلى المجتمعات الأخرى، بل تركَّز النشاط الإعلامي في ما يعرضه كل مجتمع من خلال وسائل إعلامه، فأعطى هذا فرصة غير مسبوقة لإنتشار الأفكار الشعوبية على حساب التجارب الوحدوية التي التزمت قيم الهوية المشتركة. وساهم الإعلام "المعلَّب" في تعميق الهوة بين التيار الملتزم بمكونات الهوية، والتيار الرافض لها. فمثلاً، لجأ القائمون على صناعة الإعلام إلى استيراد نماذج من الأعمال الدرامية التركية والبرازيلية، عوضاً من الدراما العربية التي فقدت بعضاً من عناصر هويتها. وتقبَّلنا من فكر الآخر كل ما هو سلبي مثل يطرحه من قيم دخيلة وعادات غريبة، على مجتمعاتنا العربية. كما فقدنا القدرة على استلهام الإبتكار عندما استسهلنا استنساخ قوالب برامجية أجنبية، لعرضها في وسائلنا الإعلامية. وكذلك حدثت سطوة الإعلان ذي التوجهات الغربية من حيث اللغة والفكر على الرسالة الإعلامية، وتسللت أفكار تعارض قيم الأسرة العربية إلى مخادعنا، ووصلت إلى مسامعنا مفردات كانت تدخل في يوم من الأيام تحت ما يسمى "قاموس العيب"، في أدبيات الفكر والعقل العربي، وسميت المشروعات بأسماء إفرنجية، وتباهت المحال بوضع لافتات غير عربية وعُنونت قنوات وإذاعات عربية بأسماء أجنبية. هكذا، تظل الإشكالية التي يجب حلها برؤية عربية مشتركة تكمن في أننا بدلاً من أن نعرف العالم بهويتنا العربية، استقبلنا هوياته وتفاعلنا معها، لاسيما من هم دون الثلاثين من العمر، وكان نتاج هذا عدم الإهتمام باللغة العربية حتى أصبح هناك ما يعرف بـ"الفرانكو أراب"، أو لهجات خليط بين العربية ولغات أجنبية مثل الفرنسية والإنكليزية؛ لدرجة أنني شاهدتً ذات مرة إحدى القنوات الفضائية التي تبث باللغة العربية تستضيف شباباً مسلمين عرب غير قادرين على التحدث بالعربية. خلاصة القول: لا أحد من المستنيرين في عالمنا العربي، يرفض الإطلاع على ثقافة الآخر أو يتجنب التفاعل مع فكر الغير. بل على العكس، يأخذ منه ما يفيده ويبني على إيجابياته ويتحاشى ما يضره من سلبياته. ولا شك في أن التفاعل مع الآخر يعتبر ضرورة من ضرورات التقدم وجزءً أساسياً من عملية التنوير في عالم اليوم. وفي الوقت ذاته، حري بنا نحن العرب والمسلمين التمسك بقيمنا وعاداتنا وموروثنا الثقافي حتى نحمي هويتنا الذاتية وشخصيتنا العربية من محاولات تستهدف طمسها.
مشاركة :